لقد حمل الأردن في تاريخه الحديث رسالة الثورة العربية الكبرى، رسالة الاستقلال والحرية التي كانت مبادئها ومازالت نبراسا يهدي ابناء العروبة إلى الحرية والسيادة والكرامة.
ويقف الأردن اليوم شامخا ويشعر كل أردني بالاعتزاز بمنجزات وطنه بقيادته الهاشمية العربية ذات النظرة البعيدة الشاملة والواعية لمتطلبات العصر وتحدياته ويحق للأردنيين الاحتفال بيوم الخامس والعشرين من مايو/ أيار والذي يصادف عيد استقلال المملكة الأردنية الهاشمية، هذا العيد الذي كانت بدايته عربية إسلامية اصيلة في 25 مايو العام ،1946 وعلى يدي المغفور له الملك الشهيد المؤسس عبدالله بن الحسين.
ويمثل عيد الاستقلال التاسع والخمسون للمملكة مناسبة جليلة يحتفل بها الأردنيون ولا تأتي من فراغ وانما بتحفيز واضح من انجازات مادية ومعنوية حققها للأردن ملوك الاسرة الهاشمية المنتسبة للبيت النبوي الشريف، وتتويجا لمسيرة الخير والعطاء التي بدأها مؤسس المملكة الملك الشهيد عبدالله وتابعها المغفور له الملك طلال بن عبدالله ثم المغفور له الملك الباني الحسين بن طلال طيب الله ثراهم جميعا.
وواصل مسيرة البناء جلالة الملك عبدالله الثاني إذ دأب جلالته ولايزال منذ توليه سلطاته الدستورية العام 1999 على النهوض بالأردن للوصول إلى مصاف الدول المتقدمة، ولا يدخر جلالته جهدا في سبيل الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي والإداري، لتحقيق التنمية المنشودة، وقد تبوأ الأردن خلال السنوات القليلة الماضية مركزا متميزا على جميع الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وحقق تقدما في مختلف الميادين بفضل حكمة جلالة الملك عبدالله الثاني الذي غدا رمزا لقيم الحداثة والتقدم والسعي الدؤوب نحو ترسيخ قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
فعلى الصعيد الخارجي، قام جلالته بالكثير من الزيارات للدول المتقدمة والشقيقة من أجل جذب الاستثمارات ومنها دول الخليج العربي، وألقى الكثير من المحاضرات في أميركا وأوروبا واليابان لترويج الأردن سياحيا واستثماريا مؤكدا ما يتمتع به الأردن من أمن واستقرار وفرص واعدة للاستثمار، كما شارك جلالته في الكثير من المؤتمرات واللقاءات الاقتصادية على مستوى العالم ونجح باستضافة مؤتمر دافوس في الأردن أكثر من مرة آخرها خلال الشهر الجاري. وقد حرص جلالته على وجود علاقات طيبة وحقيقية مع جميع دول العالم وخصوصا الدول العربية الشقيقة، ولم يتوان ابدا عن دعم الاشقاء العرب والوقوف إلى جانبهم في قضاياهم خصوصا القضيتين الفلسطينية والعراقية. ولم يتردد جلالته أيضا عن ايفاد كوادر من القوات الأردنية المسلحة ضمن قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة ليكون الأردن شريكا اساسيا في تهدئة الكثير من بؤر التوتر في العالم.
وعلى الصعيد الاقتصادي حققت الإصلاحات الاقتصادية التي قادها جلالة الملك عبدالله نتائج ايجابية على أكثر من صعيد، ما انعكس مباشرة ايجابيا على معدل النمو الاقتصادي، وقد خرج الأردن باقتدار من برنامج الإصلاح الاقتصادي بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، كما ارسى جلالة الملك عبدالله دعائم خاصة للتعاون الاقتصادي مع الدول الشقيقة والصديقة وانعكس ذلك على زيادة حجم المساعدات الخارجية وولوج الأردن في تيار العولمة، اضافة إلى تجسيد الشراكة بين القطاعين العام والخاص وتهيئة البيئة الاستثمارية والتشريعات المنظمة والمشجعة للنشاط الاقتصادي، وقد استفادت الكثير من المشروعات المستفيدة من قانون تشجيع الاستثمار وارتفع حجم التجارة الخارجية وشهد القطاع التجاري تطورات واضحة في ضوء تزايد حركة التصدير وخصوصا من المناطق الصناعية المؤهلة، إذ سجلت الصادرات نموا واضحا وجيدا.
وفي عهد جلالة الملك عبدالله الثاني انضم الأردن إلى منظمة التجارة العالمية العام ،2000 وعقدت الكثير من اتفاقات التكامل التجاري كاتفاق التجارة الحرة بين الأردن والولايات المتحدة. ومن الناحية السياسية الحزبية فقد منحت التراخيص للكثير من الاحزاب السياسية الأردنية ووصل عدد الاحزاب التي سمح بترخيصها ما يزيد على 24 حزبا سياسيا على امتداد ساحة الوطن شاركت بفعالية في مناقشة القضايا والموضوعات السياسية وتصحيح الاخطاء ان وجدت ومساعدة اصحاب القرار في اتخاذ القرارات المناسبة، والدفاع عن الوطن وحقوق المواطنين.
وهذا ما كان ليتحقق لولا تأكيد جلالة الملك عبدالله الثاني المستمر على افساح المجال للمواطنين للتعبير عن آرائهم من خلال الاحزاب ومؤسسات المجتمع المدنى.
ولا تفوتني الاشارة إلى أنه ولأول مرة تم في عهد جلالة الملك عبدالله تخصيص عدد من مقاعد مجلس النواب للمرأة، وهي خطوة رائدة واشارة واضحة على اهتمام جلالته بالمرأة الأردنية وقضاياها.
وعلى رغم الظروف الصعبة والتحديات التي واجهها الأردن بامكاناته المحدودة، فإن مؤسسة العرش الهاشمية اولت ومازالت عملية الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي عناية خاصة لمساعدة الأردنيين على تحقيق طموحاتهم لبناء الدولة الحديثة، دولة المؤسسات والقانون ومجتمع العدالة والمساواة، وفي هذا السياق عقد جلالة الملك عبدالله سلسلة من الحوارات مع ابناء وطنه بمختلف شرائحهم في الجامعات والمنتديات لقناعته بأن الحوار الهادف احد اهم اعمدة تطوير الأردن ونهضته.
وجهود جلالته الأخرى على الصعيد الداخلي ملموسة أيضا فقام بالتخفي عدة مرات للوقوف على احتياجات الشعب عن كثب وللاطلاع على نبض الشارع وتلمس احتياجاته.
وأخيرا اطلق جلالة الملك عبدالله مبادرة متميزة اثارت الاعجاب حول التنمية الإدارية. والتي دعا فيها إلى تقسيم المملكة إلى اقاليم وإنشاء مجالس محلية منتخبة "برلمانات محلية" تابعة لها، ومثل هذه الخطوة الرائدة لاشك أنها ستسهم ببناء نظام ديمقراطي وسياسي واداري واقتصادي فريد من نوعه على مستوى منطقة الشرق الأوسط، بالاضافة إلى انها ستسمح بمشاركة شعبية واسعة تتيح المجال للمواطنين وتدفعهم للمشاركة في صنع القرارات التي تمس حياتهم مباشرة، كما أنها تمس بشكل اساسي موضوعات الحوار الوطني حول أفضل السبل لتطوير نظام سياسي وتهيئة المناخ لأوسع مشاركة في الحكم ابتداء من القاعدة وحتى أعلى المواقع في السلطتين التنفيذية والتشريعية، ولا يفوتني ان اشير إلى تعليق الاتحاد الأوروبي على مبادرة جلالته المشار إليها والتي تضمنت اشادة بهذا التوجه كونه يندرج ضمن الرؤى الإصلاحية الديمقراطية.
ولابد أن انوه بأن مبادرة جلالة الملك بشأن التنمية الإدارية تعتبر بحق خطوة ملكية تمثل قرارا حاسما في قضية جاء اوانها، وهي تشتمل على رسالة فحواها ان التقدم في البلاد لا يتجزأ ولا يمكن تأخير جانب منه وتقديم جانب آخر، وان التنمية الوطنية الشاملة مثل تنمية الجسد تتم بتزامن وتوازن في مختلف المجالات والاتجاهات، وقد سبق الأردن الكثير من الدول في شجاعة متميزة وخصوصا في ملف الإصلاح والتغيير الذي لم يعد ممكنا اغلاقه وان الشعوب في المنطقة باتت تعي أهمية المضي قدما نحو الحرية والديمقراطية. كما حقق الأردنيون خطوات كبيرة على طريق التكنولوجيا وتقنية المعلومات وبأمر من جلالته تم ادخال الحاسوب إلى المدارس الاساسية والثانوية وحوسبة المناهج الدراسية، كما وتوسع التعليم العالي وازدهر، واشير هنا إلى تقرير حديث لمنظمة اليونسكو والذي جاء فيه ان الأردن احتل المرتبة الأولى عربيا في مجال اتاحة وتأمين فرص التعليم للجميع.
ويشار إلى أن سياسة جلالته المتعلقة بحياة الناس تلقى رضا شعبيا واسعا، إذ تم تنفيذ سلسلة من المشروعات تحت اشراف جلالته وذلك في مجالات التوسع بتوفير الرعاية الصحية والاجتماعية للمواطنين وتنفيذ مشروعات إسكانية لهم وقدم الرعاية للطلبة الفقراء.
وقد حقق جلالته الكثير من الامنيات واللفتات والمكرمات الإنسانية في انحاء متفرقة من الوطن، وتواصلت زياراته للمناطق البعيدة والريفية والأكثر فقرا في الأردن لتلمس حاجات الأردنيين، وقام بتوزيع منازل على الفقراء والمحتاجين، مؤكدا أن التنمية الحقيقية يجب أن تبدأ من القاعدة وان القادة يجب أن يكونوا أداة فاعلة لدفع مسيرة التنمية إلى الأمام.
ولا يفوتني ان اتحدث أيضا عن ادراك جلالته للوضع الدقيق والحرج للأردن وسط بحر متلاطم من الازمات شرقا وغربا، إذ لم يكتف جلالته بتحصين الأردن وحمايته امام هذه الانواء، بل استطاع علاوة على ذلك لعب دور عالمي مهم من طراز فريد غير عابئ بمحدودية الأردن موارد وحجما، فحقق للأردن حضورا واحتراما عالميين وأثبت ان للدول ادوارا مهمة لا تقاس وفقا لحجمها وعدد قواتها وجيوشها واقتصادها، وبالفكر المستنير والسلوك الواضح والرؤى الإنسانية السامية الصادقة العميقة والموضوعية يمكن للدول ان تتخلص من قيود الجغرافيا والمساحة والموارد لتمارس ادوارا سامية وكبيرة وتكسب ثقة المجتمع الدولي بها، ولقد قفز الاردن بفضل حنكة وحكمة جلالة الملك عبدالله خطوات كبيرة إلى الامام، وحاز على احترام دول العالم اجمع، فأصبح صوته مسموعا ورأيه محترما ومأخوذا به، وبات محورا اساسيا في السياسة الإقليمية، إذ غدا باعتداله المشهود له عنصر إصلاح وتوفيق بين أطراف متصارعة في المنطقة، طارحا آراءه التي ثبتت يوما بعد يوم صحتها غير آبه بالمشككين والمرجفين أصحاب الاجندات الخاصة الذين سرعان ما ينكفئون على أنفسهم بعد أن يكتشفوا خطأهم، فهنيئا لنا نحن الأردنيين هذا الملك الشاب الذي استطاع ان يحمي وطننا من هزات كانت كفيلة بتعطيل مسيرة دول أكبر حجما وأكثر موارد وأقوى اقتصادا، وعلينا جمعيا أردنيين وعربا ان نشد على ايدي كل زعيم يسعى للنهوض ببلده، لأن في قوة وازدهار كل قطر عربي قوة للأمة بأكملها.
ولاحظ المراقب والمتابع للتطورات في الأردن انه يشهد تقدما لافتا في مجال السعي نحو تكريس مسيرة الحرية والديمقراطية التي بدأت منذ سنوات وذلك على رغم وقوعه بين بؤرتي توتر في العراق وفلسطين.
وتنطلق مؤسسة العرش الأردنية بكل ما تقوم به من ثقتها المطلقة بالمواطن الأردني، ومن ثقتها بأن الإصلاح والديمقراطية وسيلتان للتقدم ويجب عدم الخوف منهما، ولهذا شجع جلالة الملك عبدالله العراقيين على المشاركة في الانتخابات، وسجلت الانتخابات العراقية في الأردن أعلى نسبة مشاركة للعراقيين المقيمين خارج العراق، وكذلك هنأ جلالته الفلسطينيين بانجازهم الكبير المتمثل بالانتخابات الرئاسية واختيار قيادتهم الشرعية وواصل تأكيده المستمر في دعم وتأييد خيارات الشعب الفلسطيني.
وأخيرا أؤكد أن الحديث عن انجازات جلالة الملك عبدالله الثاني يطول ويتشعب، فقد عمل جاهدا في سبيل جعل الأردن نموذجا يحتذى في الإدارة والاقتصاد والتنمية والديمقراطية والأمن والاستقرار، واثبت جلالته مرة تلو الأخرى انه صاحب رؤية ثاقبة وان سعيه للنهوض بالأردن لا حدود له.
وقد كانت الاعوام الستة الماضية من العهد الميمون لجلالة الملك عبدالله الثاني استثنائية في حجم الانجازات وخصوصا على الصعيد الاقتصادي ومستوى الدعم الدولي ما يبشر بمستقبل كبير وواعد للأردن وبالاعتماد على اقتصاد المعرفة وتكنولوجيا المعلومات بعيدا عن الموارد الاقتصادية التقليدية التي ستعقد مستقبلا.
وختاما وفي غمرة احتفالات الأردن بعيد استقلاله هذا العام يشرفني ان أؤكد أن الأردن ملكا وحكومة وشعبا ينظرون بعين الاعجاب والتقدير لما تشهده مملكة البحرين الشقيقة من تطور في مختلف المجالات في ظل القيادة الحكيمة الواعية لجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة وبفضل المشروع الإصلاحي لجلالته لتحقيق الديمقراطية والحريات العامة وتأمين أفضل سبل الحياة الممكنة للمواطنين البحرينيين، وكما هو معروف فإن عمق العلاقات الثابتة التاريخية والمميزة بين المملكة الأردنية الهاشمية ومملكة البحرين الشقيقة تعززها دائما العلاقة الاخوية الصادقة والصافية بين صاحبي الجلالة الملك عبدالله الثاني والملك حمد بن عيسى آل خليفة حفظهما الله، هذه العلاقة التي قطعت شوطا كبيرا من التطور والنمو والانسجام في جميع المجالات والمواقف. وأسأل الله ان يوفق الأردن والبحرين للوصول بعلاقتهما مع الاشقاء العرب جميعا لمستوى العلاقات بينهما. * السفير الأردني لدى مملكة البحرين
العدد 992 - الثلثاء 24 مايو 2005م الموافق 15 ربيع الثاني 1426هـ