ما أسهل الحرب على المتفرجين! وما أرخص تقديم الاقتراحات الباردة وأنت جالس على مكتبك تدخن السيجار. من هنا فإن الكثير مما يكتب عن "طي صفحة الماضي" لا يزيد عن قيمة ما ينفثه المدمنون من مناخرهم وهم يعاقرون الشيشة في مقهى شعبي رخيص.
"طي صفحة الماضي" ليس موضوعا إنشائيا بالمدرسة الاعدادية، بل هو عقدة وطنية مؤلمة، كونه نتاجا مرا لسياسة امتدت ثلاثة عقود، ذاق خلالها الناشطون والحركات السياسية ومؤسسات المجتمع المدني في العقود السابقة أصنافا من العذاب والملاحقات والعقوبات، وصلت إلى الذروة في صورة عمليات قتل، بعضها كان ميدانه الشوارع وبعضها شهدته أقبية التعذيب. وهكذا قدر للبحرين، هذا البلد الصغير مساحة وسكانا، أن يدفع أكثر من أربعين ضحية من أرواح أبنائه طوال خمسة وعشرين عاما، بعضهم سقط بالسياط وبعضهم بالرصاص.
إذا حولنا هذه الحقائق إلى لغة أرقام محايدة، فسنقف على الاكتشافات المذهلة الآتية:
أولا: ان شعب البحرين الطامح لتحقيق مجتمع المساواة والعدل وبناء دولة متحضرة، ما فتئ يقدم التضحيات الغالية من دماء أبنائه، بمعدل ثلاثة شهداء كل عامين، أو شهيد واحد كل ثمانية أشهر. هذه الحقيقة لا يدرك خطورتها من عاش بعيدا عن الحياة، لا يتجاوز تفكيره حل "مشكلة" سياقة المنقبات.
ثانيا: إن ما يتمتع به المواطنون اليوم من هامش حرية، وحرية تكوين جمعيات ونقابات وانتخابات آخرها في الجامعة، هذا التغيير والحراك السياسي النشط، كان ثمنه شهيد واحد مقابل كل عشرة آلاف مواطن.
ثالثا: إن الشهداء، أو الضحايا أو قتلى قانون "أمن الدولة"، يتوزعون جغرافيا على الجزر المأهولة الكبرى في هذا الأرخبيل الهادئ الجميل: البحرين، المحرق، سترة. أما زمنيا فتقف قافلة الشهداء عند نهاية التسعينات، وإن كانت ترجع بداياتها إلى الخمسينات إذا وضعنا الحركة في نطاق وطني أوسع.
هذه الحقائق يجهلها الطارئون على ساحة العمل السياسي، المتطفلون على خيرات الوطن. وفوق ذلك فإن هذا "العلق" السياسي الذي يعيش على النتن الطائفي، يتجاهلون أن الكرسي الذي يجلسون عليه، والثلاثة آلاف دينار، والـ 750 دينارا بدل المكتب، والسيارة الـ "بي إم"، انما كانت حصيلة تضحيات آلاف المواطنين الطامحين لبناء وطن عادل لا يفرق بين أبنائه. وطن لا يرجف فيه الأمل، ولا تطفأ فيه الشموع، ولا يحارب فيه الشريف في لقمته.
هذا العلق السياسي، الذي تسلل في غفلة من الناس إلى أخطر مؤسسة يمكن أن تقوم بدور رقابي في مصلحة الشعب فيحفظ توازن البلد، نراه يزايد اليوم على جراحات الوطن وعذابات أهله. بل ويتطفل على ملف الضحايا، محاولا خلط الأوراق على طريقة "لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه" "فصلت: 26". اما وقد جاءت المبادرة من حيث لا نحتسب، فلنكن شجعانا ولنفتح هذا الملف بكل شفافية ووضوح، حينها سينكشف زيف هذه الحركات المفتعلة، وسرعان ما سينفضح "من بكى ممن تباكى" كما قال المتنبي في مقصورته!
وللتاريخ... فإن ضحايا "أمن الدولة" سقط بعضهم قبل شيوع مصطلح الارهاب بعشرين سنة، وبعضهم قبل هجمات سبتمبر بخمس سنين، ومن هنا فإن محاولة لصق المصطلح "الأميركي" المستورد من "الكفار الصليبيين" بتلك الفئة الوطنية التي ضحت من أجل البرلمان انما هي محاولة استغباء مفضوحة للرأي العام، حتى لو وصلت نياق العسس والجواسيس إلى جنيف!
ومن حقنا أن نتساءل: هل صحيح أن جميل العلي كان إرهابيا قضى نحبه في أبريل/ نيسان 1980 حرقا بالمكواة، وثقبا بآلة ثقب الجدار "الدريل"؟ هل صحيح ما كتب في شهادة وفاة الشيخ جمال العصفور في السجن في صيف 1981 ان السبب حكة جلدية؟ وهل من المعقول ان معتقلا آخر قضى نحبه فجأة في ظرف ساعات من اعتقاله قضاء وقدرا؟ وهل صحيح ان هناك شابا بحرينيا اسمه صالح مهدي عوقب في السجن الانفرادي بسجن جو ليموت عطشانا مجوعا في شهر أغسطس العام 1986؟ وهل الزنزانة التي مات فيها الشيخ على النكاس لا تزيد مساحتها على مساحة قبر، في العنبر الغربي من سجن القلعة الشهير؟ ولماذا رفضت الداخلية إصدار شهادة وفاة لعائلته؟ هل لأنه مات بالحكة الجلدية أيضا؟
عذابات شعب مكافح يبحث عن كرامة في وطنه، ومعاناة امتدت عقودا في قبضة قانون "أمن الدولة"، هل يمكن اختزالها في مقالات إنشائية لا تصلح حتى لمادة التعبير في صف بالمرحلة الاعدادية؟
معاناة لو تم توثيق تفاصيلها لخرجت البحرين بمجلدات ضخمة من أدب السجون تنافس بها روايات ديستوفيسكي. وهي عقدة وطنية تبحث عن حل حكيم، يختزلها أحد الطارئين على الساحة السياسية في "ثأر" لأحد أبناء قبيلته ويريد القصاص من جميع أهل صنعاء! فماذا لو طالب الضحايا الآخرون بدماء أبنائهم، ألن يشمل القصاص كل سكان العالم العربي؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 992 - الثلثاء 24 مايو 2005م الموافق 15 ربيع الثاني 1426هـ