العدد 992 - الثلثاء 24 مايو 2005م الموافق 15 ربيع الثاني 1426هـ

"الطفل" حياة المهمشين وبراءتهم في إبداعات آخر البررة

من جديد فيلم السعفة الذهبية لم ينل إجماعا في "كان"

لا شك في أن الأخوين جان بيار ولوك داردين، محظوظان، فهما في كل مرة يقدمان فيها في مهرجان "كان" فيلما لهما، يكون من حسن حظهما أن رئيس لجنة التحكيم شخص غريب الاطوار بعض الشيء. .. معلم حقيقي في فن السينما، يحقق - هو - أفلاما كبيرة، لكنه من الذين يركزون الحياة من حول ذواتهم إلى درجة تجعله راغبا حين يطلب منه، أن يكافئ في اعطاء الجائزة الكبرى لفيلم يختلف تماما عن مساره وفي المقابل في أن يحرم من السعفة زميلا كبيرا له. حدث ذلك قبل 6 سنوات حين كان الكندي ديفيد كورننبرغ رئيسا للجنة فأراد أن يثأر لاخفاقاته الدائمة في الحصول على "السعفة الذهبية" ليجد الاسلوب الأفضل، لذلك أعطى "السعفة" لفيلم اجتماعي مأسوي من توقيع الأخوين البلجيكيين وهو "روزيتا" الذي لم يكن أحد قد توقع له أي فوز في أية فئة على الاطلاق، كذلك يومها أعطى كروننبرغ جائزة أفضل ممثلة لشابة ظهرت في فيلم بائس آخر في تلك الدورة يدعى "الانسانية" سرعان ما طواها النسيان تماما.

هذه المرة كان رئيس لجنة التحكيم فنانا كبيرا آخر غريب الأطوار، سبق له، هو، أن فاز بالسعفة مرتين، ولذلك لم يبد راغبا في اعطائها لواحد من زملائه الكبار ممن حازوها سابقا لذلك حتى وإن كان هناك في المسابقة أسماء كبيرة من طينة لارس فون ترير وديفيد كروننبرغ وجيم غارموش وحتى ميكائيل هانيكة... فضل رئيس اللجنة وهو طبعا أمير كوستوريتسا "صاحب "زمن الغجر" و"اندرغراوند" وأعمال كبيرة أخرى" فضل أن تذهب "السعفة" إلى الأخويين داردين باعتبار ذلك من أهون الشرور بالنسبة إليه. أما فيلم الأخوين هذه المرة فيدعى "الطفل" وهو عمل بؤسوي آخر من عمل هذين الفنانين اللذين اعتادا في أعمالهما الأخيرة ومنذ "الوعد" و"روزيتا" الغوص في قضية المهمشين من الذين يتركهم مجتمع الرفاه الأوروبي جانبا وينساهم.

مسافة فكرية وفنية

طبعا لا نعني بكلامنا الذي افتتحنا به هذا الحديث أن "الطفل" ليس فيلما جيدا بل بالعكس هو واحد من أجمل وأقوى ما حقق حان بيار ولوك حتى اليوم ولكن من هنا وحتى نقول أنه كان في الامكان - عدلا - تفضيله على "ماندرلاي" أو "زهور محطمة" أو "حيث تكمن الحقيقة" أو "تاريخ من العنف" أو "ثلاث مرات" وغيرها من تحف عرضتها الدورة الأخيرة - المنتهية قبل أيام - لمهرجان كان، مسافة فكرية وجمالية لم يرغب أحد في أن يقطعها ومن هنا شهدت المفاجأة - كالعادة - حين إعلان النتائج ، ليس استخفافا بالفيلم ولكن أسفا على دورة كانت في رأي الجميع، واحدة من أفضل دورات المهرجان منذ سنوات عدة.

فالحقيقة أنها لا يمكنها أن تكون أقل من ذلك دورة تعرض الجزء الثاني من ثلاثية "يو. إس. إي" للارس فون تراير بعد ما كانت دورة العام قبل الماضي عرض الجزء الأول من "دوغفيل" يومها، إذ لم يفز لارس بأية جائزة، قرر غاضبا يومها بأنه لن يعود إلى "كان" لكنه عاد مع "ماندرلاي"، هذا الفيلم التحفة الغريب، الذي يتصدى لقضية استعباد السود في أميركا، منتصف ثلاثينات القرن العشرين، لكنه يظل من خلالها وبالاستناد إلى اقتباس حر تماما لأوبرا القروش الثلاثية لبريخت على المسألة العراقية وخصوصا على مسألة فرض جورج بوش للديمقراطية على العراق وعلى غيره. فون تراير في هذا الموضوع أصر على أن يبقى سلبيا: لماذا هذا النوع من الديمقراطية أصلا؟ أولم يكن سود بلدة ماندرلاي أكثر سعادة قبل أن تأتي غريس وتحررهم؟

الذين شاهدوا "ماندرلاي" صفقوا له طويلا، لكن سيكون عليهم أن ينتظروا أكثر قبل أن يشاهدوا جزءا ثالثا من الثلاثية نفسها وهو سيحمل عنوان "واشنطن" ذلك أن لارس فون تراير قال في كل وضوح إنه لا يشعر نفسه ناضجا كفاية حتى يحقق هذا الفيلم قريبا!

والدورة تميزت أيضا إذ قدمت آخر تحف جيم غارموش "زهور محطمة" لكنها انصفت هذا الفيلم إذ أعطته "جائزة النقاد الكبرى" المعتبرة من الناحية الفنية على الأقل أكثر أهمية من السعفة لأنه إذ تكافئ السعفة فيلما نال اجماعا من الناحية المبدئية، إذ إنه أمر ندر أن حصل فإن الجائزة الكبرى تكافئ فيلما نال اعجاب النقاد واجماعهم والحقيقة أن حال "زهور محطمة" كذلك، لأن عمل غارموش الجديد هذا والذي أعطى بيل موراي ثاني أجمل دور في حياته بعد دوره في "ضاع في الترجمة" فيلم كبير وخفيف أيضا، أنه عن الحب ومرور الزمن، عن الابوة وهيمنة الماضي علينا، من خلال شخصية دون جوانية، لستيني تخبره احدى عشيقاته ان له منها ابنا يبحث عنه الآن.

آخر البررة

الابن حاضر بشكل عام في عدد كبير من أفلام دورة "كان" الأخيرة هذه من فيلم "الملك" لجيمس مارتن إلى "لا تأت قارعا الباب" لفيم فندرز الذي بعد ما انطلق انطلاقة طيبة، فقد ايقاع فيلمه في ربع الساعة الأخير فانه مع معجبيه يسألون ما الذي حل بصاحب "باريس تكساس" و"أجنحة الرغبة"؟

الابن... الماضي... مرور الزمن... تفكك العائلة... الاتصال بين البشر صار مقتصرا على الهاتف المحمول، كلها موضوعات هيمنت على الدورة في كان لتعطيها نكهة في غاية الغرابة ولأن المهتمين توقعوا أن تكون هذه الغرابة عنصرا أساسيا في توزيع الجوائز، كان دهشتهم حين تم اختيار اكثر الأفلام عادية من ناحية الموضوع للسعفة، ما يعيدنا إذا، "الطفل" بعد كل شيء، فيلم يمكن التوقف عنده، وعلى الأقل لأنه - بالتأكيد - الفيلم الأوروبي الذي سيحقق حين يعرض تجاريا أكبر نجاح ممكن، مدعوما بسمعته الكافية هذه، فمن هو الطفل في هذا الفيلم؟

انه الصغير ذو الأسبوعين من العمر، أو أقل، الذي أنجبته أمه للتو من صديقها في مدينة لياج البلجيكية، لكن الصديق برونو لم يأت لرؤيتها في المستشفى، ولم يكن في استقبالها عند الباب، لذلك ها هي الآن عند مفتتح الفيلم تتأبط الطفل الوليد وتبحث عن أبيه، لتعثر عليه أخيرا يتسول بين السيارات في الشارع المزدحم، ونفهم بسرعة أن برونو هامشي يعيش حياته متسولا، كما يقوم بين الحين والآخر بسرقات صغيرة مع عصابته من الفتيان، ما يؤمن له عيشا ورزقا يأباهما عليه المجتمع. أما بقية ما تبقى من زمن الفيلم فإننا لا نشهد خلالهما سوى التعاطف والتجاذب والتنابذ بين برونو وصديقته من حول ذلك الطفل الذي يعترف به بسرعة أمام الدوائر الرسمية، ولكن من دون أن يهتم به أبدا. لأن برونو هامشي اعتاد أن يعيش من دون أن يمتلك شيئا ولأنه سارق ينتشل كل شيء ليبيعه، وهكذا ذات لحظة لن يتورع برونو عن بيع الطفل، يسرقه من أمه في عربته، يتسول عليه بعض القروش أملا ثم يبيعه من دون أن يدري أن المشتري هو عضو عصابة تتاجر بالاطفال، لتبيعهم لاحقا إلى من يريدون تبنيهم. على أية حال غيبة الطفل عن أمه لن تطول ذلك أن الأم تفقد وعيها إذ عرفت بما فعل برونو وتدخل إلى المستشفى لتشرف على الموت فلا يكون من صديقها إلا أن يستعيد الطفل ويعيده اليها على رغم ان ذلك سيكلفه كثيرا. ومن هنا يقدم على المزيد من السرقات مع فتى شريك له ولكن حين تقبض الشرطة على الفتى لا يعود أمام برونو الا أن يسلم نفسه ويودع السجن حيث تلتقيه فتاته في زيارة وينتحبان معا في لقطة أخيرة تنهي الفيلم.

فضيلة أولى

من الواضح أننا لسنا هنا أمام موضوع لـ "السعفة الذهبية" ومع هذا لابد من الاشارة إلى أن الأخوين داردين يلتقطان بشكل جيد عالم المهمشين، كما يصوران بشكل آخاذ مدينتهما والحياة اليومية وسط كم هائل من المشاعر. لا شك يذكر المتفرج العربي بأحلى ساعات حسن الامام وأحمد ضياء الدين معا، ولكن بما أنه لا تجوز الاطالة هنا - في معرض الحديث عن سينما الأخوين داردين - عن مرجعيات من السينما العربية التي لا يعرفانها، يمكن القول إن المرجعية الصالحة للحديث عن "الطفل" كما في "الوعد" و "روزيتا" انما هو الانجليزي كين لوتش، الذي يشارك الاخوين داردين بؤسويتهما واهتماماتهما الاجتماعية في سينما تبدو ذات صلة بأفكار بؤس العالم التي كان بيار بورديو، المفكر الفرنسي الراحل، من أشد المهتمين بها على ضوء ما فعله مجتمع الوفرة الكاذب. والعولمة بالناس الصغار، ويبدو في هذا الإطار كين لوتش والاخوان داردين معا، البقايا الأخيرة من مبدعين لايزالون قادرين على الاهتمام بهذا النوع من البشر، الذين تلتقي هامشيتهم مع براءتهم لتخلق عالما خاصا، عرف "الطفل" كيف يعبر عنه، وهذا فضيلته الأولى.


جوائز مهرجان "كان" للعام 2005

كان - د ب أ

الجوائز الرئيسية التي منحت يوم السبت الماضي في مهرجان كان السينمائي الدولي للعام 2005 هي:

السعفة الذهبية: فيلم LصENFANT "الطفل" للمخرجين الشقيقين جان بيير ولوك داردين "بلجيكا".

الجائزة الكبرى: فيلم Broken Flowers "زهور محطمة" للمخرج جيم غارموش "الولايات المتحدة".

أحسن مخرج: مايكل هانيكي "النمسا" عن فيلم Cach "المحجوب".

أحسن ممثل: تومي لي جونز "الولايات المتحدة" عن فيلم THE THREE BURIALS OF MELQUIADES ESTRADA "دفن ملكياديس استرادا ثلاث مرات".

أحسن ممثلة: هانا لازلو "إسرائيل" عن فيلم Free Zone "منطقة حرة".

أحسن كاتب سيناريو: غيلرمو ارياجا "المكسيك" عن فيلم "دفن ملكياديس استرادا ثلاث مرات".

جائزة التحكيم: SHANGHAI DREAMS "أحلام شنغهاي" ذهبت إلى وانج شياو شواي "الصين"





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً