تناقضان أساسيان يشكلان المشهد السياسي، كل تناقض يدفع باتجاه مناقض للآخر، واستمرار التناقضين على حالهما لن يؤدي إلا إلى مزيد من الاستنزاف في العراق، وبالتالي برز الإدراك بحاجة الأوضاع إلى طريق ثالث يكسر حال التناقض ويوفق بينهما، وهذا الأمر يحتاج إلى معالجة تقترب إلى حد ما من انقلاب سياسي على كل ما شهدناه من توجهات خلال العامين الماضيين. وربما ما يساعد على تحقيق مثل هذا الانقلاب هو وصول الأطراف المكونة للتناقضين إلى حال من "توازن الضعف" المتقابل مع خصومها.
وللإيضاح كانت التصورات أن العنف سيدفع باتجاه توقف العملية السياسية، وعلى رغم تصاعد حمم العنف خلال فترة الانتخابات مطلع العام الجاري، فإن الانتخابات جرت وتكاد كل التقييمات تشير إلى نجاحها على رغم عدم اشتراك غالبية العرب السنة فيها لأسباب عدة تقف في مقدمتها أجواء العنف التي تسيطر على مناطق ما يعرف بـ "المثلث السني".
وكانت الآمال أن نجاح العملية الانتخابية وما ترتب على ذلك من إعطاء دفعة منشطة للعملية السياسية سيؤدي إلى تقلص العنف في البلاد.
غير أن أعتى موجة عنف انفجرت غداة تشكيل الحكومة وتواصلت حتى غدت تنذر بعودة السيناريو الأسوأ المتعلق بنشوب حرب أهلية. ومع أن المشاحنات السياسية والتنافس بين الضالعين بالعملية السياسية كثيرا ما كانت عدة وكابحة لتسارع العملية السياسية، لكنها في كل الأحوال لم تكن ضارة لدرجة الإخلال بقواعد العملية السياسية أو مهددة لوقوفها.
وربما بسبب "توازن الضعف" بين السائرين والمناهضين للعملية السياسية، فالواضح أن حالا من التراتبية للمشهد السياسي العراقي ستظل قائمة لفترة قد تطول لسنوات، بمعنى أن تتواصل العملية السياسية وتصل إلى نتائجها، فيما يستمر العنف في تراتبية التصاعد والانكفاء بين الحين والآخر.
وتقديرات بعض المسئولين الأميركيين من أن التمرد قد يستغرق عقدا كاملا قبل التغلب عليه، وإشارات وزير الدفاع دونالد رامسفيلد من أن تاريخ العراق هو مسلسل طويل من العنف الدموي، وبالتالي فإنه لم يشهد استقرارا في تاريخه، و"لن يشهده الآن" فيه الكثير من اعتماد نظرية "الشواش" في اعتماد مقياس للنجاح والفشل في العراق.
وينصب في هذا الإطار الحديث من جانب الوزيرة كوندليزا رايس من اعتماد حلول سياسية إلى جانب القبضة الحديد في مواجهة التمرد. وما أعلنه نائب وزيرة الخارجية الأميركية روبرت زوليك في بغداد خلال الساعات الأخيرة عبر عن رغبة إدارة حكومته في حوار "سياسي دبلوماسي" مع مسلحين عراقيين، وقوله إن هناك أشخاصا من هذه الفئة "نحاول التحدث معهم عبروا عن انفتاح تجاه الولايات المتحدة والحكومة العراقية" بقدر ما يعطي توضيحا للحلول السياسية التي تحدثت عنها رايس، فإنه يؤكد المعلومات التي يتداولها العراقيون حاليا عن اتصالات قطعت شوطا لا بأس به بين الأميركيين والقيادة المؤقتة لحزب البعث العراقي التي تشكلت على أنقاض النظام العراقي السابق، الذي هيمن عليه البعث وسقط في التاسع من أبريل/ نيسان العام .2003 كما أنه يؤكد المعلومات التي ترددها أوساط مقربة من رئيس الوزراء العراقي السابق إياد علاوي عن نيته - وربما بدفع من واشنطن - في تشكيل حزب يحمل اسم حركته "الوفاق الوطني العراقي"، ويضم عناصر بعثية حتى في مراكز القيادة والسلطة حتى سقوط النظام السابق. بل والحديث من جانب رئيس الوزراء الحالي إبراهيم الجعفري في الحديث عن تجربة المصالحة في جنوب إفريقيا بعد سقوط النظام العنصري فيها، إنما كله يعبر عن انقلاب سياسي جديد سنشهده ربما قبيل أو بعد اقرار الدستور في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل استعدادا لانتخابات نهاية العام. وما تأكيدات رئيس البرلمان العراقي عن تشكيل لجنة تضم العرب السنة مرادفة للجنة الدستور في البرلمان، لتشكل اللجنتان الجناح الذي يحلق عبره الدستور في فضاء المرحلة، يوضح عناصر الانقلاب السياسي القادم
العدد 991 - الإثنين 23 مايو 2005م الموافق 14 ربيع الثاني 1426هـ