لأولئك الذين دخلوا مراكز الشرطة قبل العام ،2001 كان بإمكانهم مشاهدة أنابيب بلاستيكية سوداء في هذا المكتب أو ذاك. هذه الأنابيب نعرفها جميعا وكنت شاهدتها مرتين في أحد المراكز موضوعة في تجويف أحد الأدراج بينما كنت جالسا أنتظر. نسميها "الكيبل" ونستخدمها في تمديدات المياه لكنها في مراكز الشرطة كانت تؤدي وظيفة أخرى.
بينما كنت أنتظر، كان اثنان من رجال الشرطة يتمازحان بشأن موقوف جنائي، إذ قال أحدهما أمامي: "إن الشرطي "فلان" أشبع الموقوف ضربا بالكيبل البارحة". قالها وهو ملتفت صوبي في محاولة لإشراكي في الحديث عن طرفة استمتعا بها لبعض الوقت. مثل هذا التبسط في الحديث عن واقعة ضرب موقوف - مهما كان جرمه - وبدافع التندر والضحك لا تدل إلا على أن التعذيب وإلحاق الأذى الجسماني بالآخرين بمن فيهم الموقوفون بات أمرا أقرب إلى العادة وهو في معناه الأهم يعبر عن قبول نفسي وذهني في ثقافتنا العامة لفعل التعذيب. لقد كان ممارسة عادية ومستقرة لا تستدعي القلق. وأبعد من هذا فإن "الكيبل" أصبح جزءا من فلكلور حياتنا اليومية، أو بالأصح رمزا أساسيا لعلاقتنا بالشرطة.
إن "الكيبل" ليس سوى رمز يختزل علاقتنا مع أجهزة الأمن فيما مضى، فهي علاقة قائمة على الخوف. لقد أصبح هذا تاريخا الآن، لكن هذا التحول لا يلغي حقيقة أساسية ستظل تؤرقنا لفترة من الوقت: التعذيب كان ممارسة شائعة ومستقرة وتجد القبول والأقسى من هذا أنها كانت لا تحتاج إلى التبرير.
التعذيب لم يبدأ مع حوادث التسعينات، بل هو ممارسة قديمة وممتدة. ولكي لا يبدو الأمر بحثا أكاديميا عن التعذيب، يكفينا استدعاء ذاكرتنا في ثلاثة عقود. التعذيب كان موجودا في الستينات وكان موجودا في السبعينات وظل قائما في الثمانينات والتسعينات. في كل هذه العقود، راح ضحية التعذيب عدد من المعتقلين السياسيين وتعرض له كل من دخل السجن في جريمة أو جنحة ولم يسلم منه حتى صغار الجانحين.
ومع هذا، ثمة اختزال كامل لهذا التاريخ من قبل المختصمين اليوم على قضية ضحايا التعذيب والشهداء. فكلا الطرفين، أي الذين يتصدون لإنصاف الشهداء وضحايا التعذيب، والحكومة أيضا، عندما يتم التعامل مع قضية خطيرة كهذه، مازالت عقبة أمام تعافي مجتمع بأسره انطلاقا وتأسيسا على حوادث التسعينات فقط. وبعد أن كان الحديث قد جرى قبل نحو عامين عن تعويضات عرضتها الحكومة على أسر الضحايا، تراجع مستوى فهم هذه الظاهرة إلى وضع الموضوع في إطار تجاذبات سياسية فجة، مع تأسيس لجنة مضادة أطلقت على نفسها "لجنة ضحايا الإرهاب".
يمثل التعذيب مكونا أساسيا في تاريخنا، شئنا أم أبينا فإن التعذيب والعلاقة المبنية على الخوف طيلة العقود الماضية لم تخلف سوى جروح غائرة في نفوسنا. ليس الضحايا وحدهم هم من يحملون هذه الجروح، بل إن تعميم الخوف عبر شيوع ممارسة التعذيب لم يؤد إلا إلى التأثير على الصحة النفسية لمجتمع بأسره. وحتى اليوم، لم يثبت لا العلم ولا منظومة الأخلاق أن الامتهان المنهجي للكرامة وإلحاق الأذى المتعمد بالآخرين يمكن أن يداوى بتصريحات في الصحف أو بتجاوزه وكأنه لم يكن.
ومع هذا، يتعين علينا الإقرار بشجاعة أن المعالجة المبتسرة لملف مثل هذا من قبل الناشطين الأهليين الذين قصروا المطالبات على ضحايا التسعينات قد أضر بقضية تمس مجتمعا بأسره لا طائفة منه أو فئة. إنه ملف يجب أن يتم التعامل معه على المستوى الوطني الشامل وبروح أبعد من دوافع الانتقام والتشفي.
ردة الفعل المضادة تستوحي المنطلقات نفسها في قصر ملف التعذيب على حقبة التسعينات، لذلك أسمت نفسها "ضحايا الإرهاب". هكذا يصبح "التعذيب" في مقابل "الإرهاب"، المنطق نفسه الذي تأسس عليه جدل تعذيب المعتقلين العراقيين في سجن "أبوغريب". ومع فوارق عدة يتعين ملاحظتها، فإن منطق هذه اللجنة وإحالتها إلى الإرهاب لا ينطوي إلا على تبرير خفي غير معلن للتعذيب تماما، مثلما هو الحال مع المنطق الأميركي سواء كان في أبوغريب أو في غوانتنامو أو في أفغانستان. منطق يبرر التعذيب بإلحاحه وتعظيمه لشرور الإرهاب.
إن قضية كهذه أكبر من أن تعالج بمثل هذا الاختزال وكأن التعذيب لم يظهر إلا في التسعينات فقط وليس انحرافا قيميا ونفسيا وخللا في الثقافة العامة الموروثة. وهي أكبر من أن تصمت عليها الحكومة وتنتقل ردة فعلها الآن إلى طور المماحكات بشأن "ضحايا الإرهاب" وتدافع عن الماضي الذي لم تفعل الإصلاحات سوى أن رسمت حدا فاصلا بيننا وبينه. إن مسايرة منطق الحكومة في هذ الملف يعطينا رسالة واضحة: لم يتغير شيء في البحرين. كان التعذيب أمرا شائعا بالأمس، واليوم ندافع عن مبرراته.
طالما بقي هذا الملف معلقا على هذا النحو ومتروكا لمثل هذه المماحكات، سيبقى مجتمعا بعيدا عن التعافي من ماضيه. إن التعافي من آثار الماضي تقتضي مواجهته بشجاعة. وهذه الشجاعة ليست مطلوبة من طرف دون الآخر، بل الجميع بدءا من الحكومة التي مارست شرطتها التعذيب وأسست علاقتها مع شعبها على الخوف. لا تستثني هذه الشجاعة المطلوبة المعارضة والناشطين أيضا، فهؤلاء مطالبون بالشجاعة مع النفس ووضع هذه القضية في إطارها المناسب كقضية تتعلق بتعافي مجتمع بأسره من ماضيه. إن هذا يقتضي التخلي عن هذا الاختزال لتاريخ التعذيب نفسه وضحاياه والارتقاء بالمعالجة إلى مستوى أكثر حكمة وبعد نظر
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 991 - الإثنين 23 مايو 2005م الموافق 14 ربيع الثاني 1426هـ