حتى منتصف السبعينات، كانت القرى تستضيف "فرقة بن حربان" الشعبية للمشاركة في إحياء حفلات الزواج، وكانت تطرب الجمهور بالأغاني "العاطفية" الشائعة في تلك الأيام، وأثناء ذلك كانت تقدم وصلات خاصة، بترديد بعض المدائح الدينية الشائعة في القرى. من بين هذه المدائح أتذكر شطرا من بيت: "والشمس ردت لعلي بعد الصلاة"، في إشارة لحادثة تذكرها كتب السيرة في إحدى الغزوات.
ولم تكن مشاركة "فرقة بن حربان" في حفلات الزواج في السبعينات إلا مثالا واحدا على التواصل بين الطائفتين في هذا الوطن في الحياة اليومية. طلاب المدارس كانوا يعيشون على سجيتهم التي ورثوها عن آبائهم الطيبين الذين حفروا آبار النفط معا واقتسموا رحلة العذاب والكد الشريف. كان طلاب البديع يدرسون في مدرسة الخميس في الستينات، وكان طلاب البلاد القديم والسنابس والحورة والقضيبية يواصلون دراستهم الثانوية في مدارس الحورة والنعيم والمنامة الثانوية. لم يكن أحد يقف ليسأل عن طائفة زميله، ولم نكن نسأل عن مناطق بعضنا، فكلنا أبناء هذا البلد. حتى في الجامعة، كنا خليطا من الأصدقاء من مناطق مختلفة، نذاكر دروسنا معا في بيت أحدنا عندما تقترب الامتحانات. هذه هي طبيعة أهل هذا البلد، وما عداه فخزف مغشوش.
هذا عن التاريخ القريب، لكن ماذا عن الحاضر؟ في الحاضر لا يأمن الانسان إن تكلم عن التقارب والائتلاف أن يتهم بالممالأة والمداجاة. قبل أقل من عام، ربما يذكر القراء الهياج الذي استتبع نشر "الوسط" بورتريه عن أحد أبناء الوطن، استشهد في لبنان ابان الاجتياح الاسرائيلي العام ،1982 إحياء لذكراه وتعريفا للقراء بأحد رموز الكفاح الوطني. حينها هاج أحدهم معتبرا ذلك تحريفا للتاريخ ومحاولة لتجييره لصالح طائفة ضد أخرى! هذه النماذج الشهيدة تكبر على الطائفة، لتنشر جناحها على الوطن كله. الناس البسطاء في فريق الفاضل ظلوا بعد 33 عاما من رحيله، يذكرون أريحيته، وكيف كان يشارك في تركيب "السواد" وحمل قدور عيش الحسين في عاشوراء، بينما النفس الطائفي يأبى إلا أن يختزل مناضلا فذا إلى قطعة من الخزف في أحد أدراج هذه الطائفة أو تلك.
في بداية الثمانينات، كان الجميع يتحدث عن الصحوة مستبشرا ببزوغ جيل "إسلامي" جديد يتجاوز جيل الهزيمة القومية، ليعيد فلسطين إلى أهلها ويحرر الأمة من عبوديتها وتبعيتها للغرب، ولكن ها نحن بعد ربع قرن من الصحوة نقف على أبواب مرحلة تتغلغل فيها كل جراثيم الطائفية القاتلة.
على أن أبشع صور هذا المرض، حين يتحول البرلمان، هذه المؤسسة التشريعية المفترض أن تمارس دورها في الرقابة وحماية حقوق المواطنين وحفظ مصالح الشعب، إلى ساحة للشتائم الطائفية، في وقت عجز أن يصدر قانونا واحدا لمصلحة الناس، أو يسترجع دينارا واحدا تم اختلاسه، أو إقالة متورط واحد في قضية فساد.
قد تقولون انه برلمان بلا صلاحيات، والنواب معذورون لعدم وجود صلاحيات، ولكن أليس من حق الشعب أن يطالب هؤلاء بأنهم إذا لم يفلحوا في تحقيق شيء للناس، فعلى الأقل ألا يسهموا في حملات التحريض والشحن الطائفي، حفاظا على ما تبقى من حلقات تواصل طبيعية بين مكونات الشعب. أليس مخجلا أن يتخصص أحد النواب في تقديم مقترحات تدفع لتأزيم الأوضاع طائفيا، من قضايا المواكب الدينية انتهاء بما أسماه بـ "ضحايا الإرهاب" في التسعينات؟ أليست بائسة محاولة خلط الأوراق واللعب بالنار في وقت يسعى عقلاء القوم لتهدئة الخواطر والبحث عن طرق لإصلاح الأخطاء السابقة التي اعترفت بها الدولة ضمنا في سياق مراجعتها للماضي، وإلغائها قانون ومحكمة أمن الدولة؟ هل المطلوب فتح ملفات التعذيب والاضطهاد والقتل تحت سياط الجلادين حتى يقتنع الطارئون على ساحة العمل السياسي بوجود فظائع في العهد السابق؟ وهل يعلم هذا النائب "المستقل" أن "قتلى" أمن الدولة ليسوا من طائفة واحدة وانما من جميع طوائف ومناطق وأنحاء الوطن، من بونفور إلى العويناتي ومدن والعلي وانتهاء بآل نوح، ظلوا يتساقطون في أقبية التعذيب حتى رفع الله سياط أمن الدولة عن ظهر هذا الشعب الذي لم يكف طوال سبعين عاما عن المطالبة بالعدل والمساواة وسيادة القانون وإقامة دولة حضارية يحترم فيها الانسان. هذا الكفاح الطويل، وهذه الكوكبة الكبيرة من الشهداء، غير آلاف السجناء والمنفيين والملاحقين، توج ببرلمان حوله بعض العابثين إلى ساحة اقتتال طائفي السيادة فيه لنواب الفتن.
هذا الشعب يستحق نوابا أفضل وأعقل وأحكم من هؤلاء. هذا الشعب يستحق نوابا يخافون الله فيه. هؤلاء بحاجة إلى دورة تدريبية لثلاثة أشهر لدى فرقة "بن حربان"، علهم يدركون بعض الحكمة والكياسة واللباقة التي تميز بها الجيل السابق من أبناء البحرين الشرفاء
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 991 - الإثنين 23 مايو 2005م الموافق 14 ربيع الثاني 1426هـ