تنفتح قصيدة الطغرائي بأسلوب خبري يقرر فيه صفات تتمحض للفخر بالذات، يعقبها أسلوب إنشائي يخصصه للاستفهام الدال على الاستنكار والتعجب، ثم يجنح إلى الخبر يقرر فيه حقائق تتعلق بحياته، وتتجلى فيها معاناته وإحباطاته، ثم صفاته الزاخرة بالاعتزاز بالذات.

ويعمد في الكثير من الأحيان إلى تطعيم الخبر بأسلوب إنشائي انصب جله على أسلوبي الاستفهام والأمر على وجه الخصوص.

أصالة الرأي صانتني عن الخطل

وحلية الفضل زانتني لدى العطل

فيم الإقامة بالزوراء لا سكني

بها ولا ناقتي فيها ولا جملي؟

ناء عن الأهل صفر الكف منفرد

كالسيف عري متناه عن الحلل

فلا صديق إليه مشتكى حـزني

ولا أنيس إليه منتهى جـذلي

الاخبار والإنشاء

ودار الوائلي في الإطار نفسه فافتتح قصيدته بالخبر وهو يتناسب وتقرير الحقائق لأن طالع قصيدته حكمة:

العزم والحزم مفتاحان للأمل

والفوز إدراكه بالعلم والعمل

كما اتكأ على الأسلوب الخبري في موضوعات عدة من القصيدة، مثل مجال التقسيم العقلي للبشر، الذي يجري مجرى الحكمة:

الناس ضدان إما حازم يقظ

يسعى وإما جهول تاه في الكسل

وأتى به في مجال الوصف، وخصوصا وصف أوضاع الشعوب التي زارها، وبيان كفاحها السلمي في سبيل تحسين عيشها، والرقي بحياتها المادية:

ففي المصانع أقوام لهم لجب

يثابرون بلا عجز ولا كـلل

وفي الأرائك أقـلام وألسنة

تستجلب الرزق من سهل ومن جبل

كما استخدم الأسلوب الخبري في بيان نتيجة الكفاح السلمي:

فهم بعيش رغيد قابضون على

أزمة الكسب من مال ومن خول

التدفق والحيوية

ومع امتداد الأسلوب الخبري في جسد القصيدة، يميل الشاعر إلى تطعيم أبياته بأساليب إنشائية، فيمنع الرتابة ويضفي التدفق والحيوية. وأهم ضروب الإنشاء في قصيدة الوائلي الأمر والاستفهام، كما هو الشأن في القصيدة المرجع، واستخدم الأمر في مجال الدعوة إلى الإصلاح، والحث على طلب العلم، واستثمار الوقت، وبرز هذا التوجيه منذ البيت الثاني الذي أعقبه بالنهي، وهو لون من الأمر المنفي:

العلم نور فخذ مـن ضوئه قبسا

يهديك في هذه الدنيا إلى السبل

ولا تضع - صاح - أوقات الفراغ فكم

مراتب ولم تنتفع منها على عجل

كما أتى الأمر في مجال الإقناع بجدوى العمل والكفاح السلمي:

سرب في البسيطة وانظر في مناكبها

ما يبهج النفس من عز ومن دول

واستخدم الاستفهام لإثارة التفكير، والتعبير عن الاستنكار على الوضع المتخلف الذي وصلت إليه الأمة:

هذا الجهاد الذي جدوا به وبنوا

مجدا "فما بالنا نمشي على مهل؟"

كما استعمله في مجال التمني والرغبة في إعادة المجد وإحياء الأيام الخوالي للأمة العربية حين كانت تزهو بحضارتها ومجدها وتتألق بين الأمم. يخاطب العرب مستندا على أسلوب إنشائي آخر هو النداء.

يا آل عدنان والدنيا مغالبة

ضيعتم الوقت في لغو وفي جدل

ضيعتم الدين والدنيا معا "فمتى

يعـود ما فات من أيامنا الأول؟"

الصورة الشعرية

الصورة آلية فنية، وأداة تعبيرية تخصب الشعر، وتدل على أصالة الموهبة وصدقها. وزخرت قصيدة الطغرائي بغنى في الخيال، فأتت الصور فيها متتابعة متلاحقة مزروعة في كل بيت من أبياتها، وفي مستوى فني مبدع وراق.

واستفاد الوائلي من خيال أستاذه، واستثمره بما يخدم تجربته. وبطبيعة الحال فقد وضع الصور التي استعارها في السياق الذي يتواءم مع أفكاره. ومن الصور التي استثمرها صورة الشمس ووضع الصورة في حشو البيت كما هي في الأصل - وفي إطار التشبيه:

ومجد عدنان كالشمس المنيرة في

رأد الضحى فتصفح مجدهم وقل

فقد شبه المجد العربي في وضوحه وبروزه بالشمس في أقوى حالاتها وأكثرها ضياء ونورا وهو وقت الضحى، واستمد الصورة من قول الطغرائي:

مجدي أخيرا ومجدي أولا شرع

والشمس رأد الضحى كالشمس في الطفل

والبيتان وإن اتفقا في المشبه به إلا إنهما اختلفا في صاحب المجد وهو المشبه، فجعله الوائلي المجد المنسوب لعدنان أبي العرب، ونسبه الطغرائي لنفسه وجعله متعادلا متساويا في جميع مراحل حياته، واستخدم الوائلي التشبيه المفصل، إذ ذكر وجه الشبه، وأتى عند الطغرائي تشبيها ضمنيا أخفى فيه ملامح التشبيه ولمح لها تلميحا، وأتى ببرهان على ما أراد.

ومن الصور الأخرى التي استمدها من أستاذه، وتصرف فيها، قوله وقد تحدث عن رجال الأعمال أو من هم في مصافاهم فتصورهم ممسكين بمصادر الرزق، متحكمين في أموره، وتصور أن للمال حبلا يقبض عليه:

فهم بعيش رغيد قابضون على

أزمة الكسب من مال ومن خول

وقد تأثر فيه بقول الطغرائي:

ملك القناعة لا يخشى عليه ولا

يحتاج فيه إلى الأنصار والخول

فتصور ان للقناعة ملكا يعيش صاحبه فيه حياة متواضعة خالية من مظاهر الملك وأبهته، وكنى عن ذلك بالحياة البسيطة وعدم الحاجة إلى حاشية من أتباع وعبيد.

ومن الصور التي استعارها الوائلي الكناية في قوله "نمشي على مهل" وكنى بها عن حال التخلف والتأخر وتعثر الخطو الذي عليه الأمة العربية حين قارنها بغيرها من الأمم الناهضة:

هذا الجهاد الذي جدوا به وبنوا

مجدا فما بالنا نمشي على مهل؟

وقد استمدها من بيت الطغرائي الذي استعملها بالصورة نفسها، وكنى بها عن نفسه وتقدمه على غيره حتى في حالات تراخيه، وأوردها في سياق الإشارة إلى تعنت الحياة معه وعبثها به.

تقدمتني أناس كان شوطهم

وراء خطوي إذ أمشي على مهل

والصورتان مع اختلافهما تحملان في جوهرهما معنى الاستلاب والتعثر في المشي من خلال المقارنة بالآخر.

صور من باب التشبيه

على أن الوائلي وإن تأثر بصور أستاذه، وخصوصا في مجال الكناية، فإنه أضاف الكثير من الصور، وغالبية ما أضافه من صور هي من باب التشبيه، وهو أبسط أنواع الصورة أو من التشبيه البليغ، ومن اللون الأخير قوله وقد شبه العزم والحزم بالمفتاحين اللذين تتحقق بهما الآمال:

العزم والحزم مفتاحان للأمل

والفوز إدراكه بالعلم والعمل

كما ضارع العلم بالنور الذي يهدي الإنسان إلى الطريق السليم:

العلم نور فخذ من ضوئه قبسا

يهديك في هذه الدنيا إلى السبل

ومن التشبيه المرسل وهو ما ذكرت فيه أداة التشبيه وتضمن كنية نمت عن الكثرة:

وفي المزارع أمثال الجراد فمن

باد بحرث ومن مستثمر جذل

كما أضاف صورا استعارية كقوله وقد تصور أن للإنسان الحر الماجد فؤادا وعقلا يمنعانه من سيطرة الخوف على جنانه وتصور ان للخوف جسرا ينام عليه:

القلب يدفعه والعقل يمنعه

من أن يبيت على جسر من الوجل

لقد أعجب الوائلي بلامية العجم فجاراها وأبحر في أعماقها واستثمر الكثير من أدبياتها التي تشد الأنظار وتستولي على الأفئدة. وهو وإن لم يتمكن من الوصول إلى مستوى خيالها المبدع إلا أنه اجتهد وحاول.

فنون البديع

تزخر القصيدة الأم بضروب مختلفة من فنون البديع من جناس وطباق وتقطيع وتصدير وما إليها. ولا عجب في ذلك فقد نظمت في عصر تألقت فيه مدرسة البديع وسيطرت على منظومة الأدب العربي.

واستخدم الطغرائي جل فنونها باقتدار تمكن. فغنت قصيدته وخدمت جانبي المضمون والشكل، كما أضفت على خطابه الشعري زينة وجمالا.

وعاش شاعرنا الوائلي في القرن العشرين، إذ خمد بريق مدرسة البديع، وفقدت زهوها بسبب ما لحق الشعر العربي من اعتلال وسقام لتهافت الشعراء عليها، وتركيز اهتمامهم حول فنونها وإهمالهم المعنى، فكان أن فقد الأدب العربي روحه وارتباطه بموضوعات الحياة الجادة، وغدا زخارف خاوية، والنتيجة أن شعراء القرن العشرين تخلوا عن هذه البهارج لصالح المعنى والوفاء للتعبير عن تجاربهم الشعرية.

ضروب قليلة منه

ولا يعني ذلك أن قصيدة الوائلي خلت تماما من فنون البديع، فقد وردت ضروب قليلة منه، وبشكل يكاد يكون تلقائيا.

ومن فنونه الطباق:

أنا الذي جبت أقطارا رأيت بها

أبناء حواء من حاف ومنتـعل

فالطباق بين "حاف" و"منتعل" خدم المعنى، وتضمن كناية نمت عن تنوع الأقوام التي زارها وتباين مستوياتها الاقتصادية. ووردت مقابلة واحدة تضمنها بيته:

هذا الجهاد الذي جدوا به وبنوا

مجدا فما بالنا نمشي على مهل

والمقابلة ضمنية قارن فيها بين واقع الشعوب العاملة المثابرة والتي استطاعت بجديتها أن تتبوأ أعلى الرتب، وبين الشعوب العربية التي مازالت متعثرة السير متخلفة عن الركب. وورد الجناس المضارع وهو ما وقع فيه الاختلاف بين حرفين متقاربين في المخرج، وفي العجز أتى بجناس القلب وهو ما وقع الاختلاف فيه في ترتيب الحروف:

العزم والحزم مفتاحان للأمل

والفوز إدركه بالعلم والعمل

وأكثر ما استخدم الوائلي التقسيم وهو استيفاء أقسام المعنى أو التقطيع وهو تقسم ألفاظ البيت إلى مقاطع متقاربة أو متساوية صوتيا، ويبدو الاثنان مركبين في قوله، وجعل القسمين ضمن مقابلة بين صنفين من البشر:

الناس ضدان إما حازم يقظ يسعى وإما جهول تاه في الكسل

واستخدم التقطيع المرصع وهو ما كان مسجوع الفواصل مرة واحدة، وحصره في صدر البيت فقط في حديثه عن الإنسان الحر صاحب العزيمة الصلبة:

القلب يدفعه والعقل يمنعه

من أن يبيت على جسر من الوجل

وفي العموم فقد وردت فنون البديع محدودة كما ونوعا، وخالف الوائلي في ذلك القصيدة الأم وساير عصره في هذا التوجه.

تعميق الحس الفني

وفي واقع الأمر لقد انبهر الوائلي بلامية الطغرائي كغيره من الشعراء، فعمقت حسه الفني وأثارث نفسه، فعمد إلى مجاراتها فحلق في فضائها، ونهل من معينها، فأغنت تجربته، وزودته بمورد ثر على صعيد المعجم اللفظي، والصور الشعرية والأساليب، وسهلت مهمته على مستوى القوافي. وهو وإن وفاق في هضمها واستثمارها أحيانا كثيرة، إلا أنه لم يتمكن من الوصول إلى آفاقها الفنية السامقة. ويكفي انه حاول فخدم بذلك موهبته وفنه الشعري كما أحيا كنوز تراث أمته الأدبي. وعلى أية حال فقد تمكن من إبراز شخصيته الفنية من خلال الإضافات التي ضمنها قصيدته، وسلم من أن يكون تابعا محاكيا وحسب