العدد 990 - الأحد 22 مايو 2005م الموافق 13 ربيع الثاني 1426هـ

لبنان بين علة الطائفية ولعبة التدويل

فكتور شلهوب comments [at] alwasatnews.com

لبنان اليوم أسير مثلث لا يحسده عليه أحد: طائفية ملتهبة - شبه وصاية دولية ملغومة - خيبة شعبية عارمة. مزيج تضافرت عوامل محلية وخارجية لتركيبه. بالأحرى كان تحصيل حاصل لهذه العوامل. الأساسي فيها كانت الطائفية، الغارزة مخالبها في البلد من زمان. هي علة العلل وبوابة كل العوامل الأخرى، التي أدت إلى حال انعدام الوزن، التي مر بها لبنان الآن. والمؤلم أكثر في المشهد اللبناني الراهن، ان الظروف قدمت فرصة، على مأسويتها، لو جرى التقاطها بالصورة السليمة لكان بالإمكان تحويلها إلى جسر عبور - ولو متدرج - بالبلد إلى الضفة الأخرى الخالية من آفة الطائفية البغيضة. لكن يبدو أن البلد بات مصابا بالإدمان على هذه العلة. فلم يقو على وضع نفسه على سكة المغادرة نحو التغيير. الطبقة السياسية ارتعدت من هذا الإمكان. فالطائفية كانت، منذ الاستقلال، خبزها وملحها. وكان بالتالي من الطبيعي، بحكم غريزة البقاء، أن تعمل على اغتيال تلك الفرصة والعودة إلى الربوع التي ترتاح إليها وتضمن استمراريتها من خلالها.

المدخل لهذا المشهد كان اغتيال الرئيس الحريري يوم 14 فبراير/ شباط الماضي. الحدث كان هزة حملت طاقات تغييرية هائلة. تداعياته جرفت معادلات وأوضاعا وعصفت بترتيبات ومراكز قوى، كانت ترسخت إلى حد أن التسليم بهيمنتها كاد أن يتحول إلى بديهيات ومسلمات. بسرعة فائقة حصلت انهيارات لقلاع محصنة. الحقبة السورية في لبنان انطوت صفحتها. القوى والأجهزة و"الموالاة"، تبخرت. صفحة جديدة انفتحت، كان أروع ما فيها التفاف اللبنانيين خول علم بلادهم وبإجماع غير مسبوق، شمل كل تلاوين ومشارب التركيبة اللبنانية. كانت لحظة توافق وطني أهم ما فيه عفويته وصدقيته. والأكثر أهمية أن الناس في لبنان ولأول مرة كانوا متقدمين على قياداتهم. الأمر الذي لاح معه إمكان تجيير هذا الالتفاف وتوجيهه نحو تحقيق قفزة نوعية باتجاه الانتقال إلى بناء الوطن على أنقاض الطائفية. ولاسيما ان الاستحقاق الانتخابي على الأبواب، بحيث يمكن استخدامه أداة لوضع اللبنات الأولى لهذا البناء.

لكن ما أن اقترب موعد هذا الاستحقاق - 29 الجاري أولى محطاته -، حتى عادت نغمة الطائفية تلعلع في سماء السياسة اللبنانية، بأقوى مما كانت عليه. بعض الرموز، أعاد خطابها إلى الساحة أجواء وذكريات الشحن الطائفي، أيام الحرب الأهلية. كل جهة بدأت العزف، بدرجة أو بأخرى، على هذا الوتر. في أسابيع قليلة تحول المسرح السياسي إلى جوقة طائفية. الكل يزعم انه الحارس الأمين لحقوق طائفته، من خلال الصراع على قانون الانتخاب المطلوب اعتماده. من كان ضد القانون الساري الموسع، على أساس أنه مفصل سابقا على قياسات النفوذ السوري، صار فجأة من حماته لأنه يحقق له مصالحه في ظل الوضع الراهن وبعد الانسحاب السوري ومن كان معه انقلب عليه لأنه لا يخدمه في غياب السوريين. اختلط الحابل بالنابل وأصيبت الأجواء بشبه تسمم، بدا معها وكأن مناخات الاجماع التي بشرت بإمكان ولادة وطن، تبددت. الزخم الذي تراكم على امتداد أسابيع بعد 14 فبراير تراجع، وبدأت تتراكم مكانه طبقات من الخيبة. فالانتخابات النيابية التي كان يشكو اللبنانيون من انها كانت تأتي معلبة من دمشق، تبدو الآن وكأنها أكثر تعليبا. المحاصصة الطائفية بين أهل الشأن جعلت نتائجها معروفة سلفا. عدد من النواب فاز بالتزكية قبل ان يتوجه الناخبون إلى صناديق الاقتراع! وبالتالي ليست هناك مبالغة أوتبسيط عندما يتحدث البعض الآن عن "الفولكلور" أو "التهريج" الانتخابي في لبنان. في السابق كان النفوذ السوري يتولى التوزيع والإخراج للمقاعد النيابية. اليوم يتولى التقاسم الطائفي هذه المهمة وفي الحالين يبقى التمثيل غير مشروع. وزاد الطين بلة أنه في الوقت ذاته الذي تذرعت فيه غالبية الأطراف بضيق الوقت، تبريرا لقبولها بالقانون "الجائر" الذي يحكم الانتخابات، تبين أن القبول هذا جاء بالدرجة الأولى نتيجة للإصرار الأميركي ومعه الفرنسي، على إجراء الانتخابات في موعدها وبالقانون الساري الجاري. فجأة تراجع الذين هددوا بمقاطعة الانتخابات وارتضوا بالأمر الواقع. وبقدرة قادر استدار الرافضون للتدخل الأميركي 180 درجة وأعلنوا أن الأميركيين طلبوا المضي في العملية بحسب الترتيبات السارية وأنهم - ضمنا - وافقوا ومضوا.

لماذا هذا الإصرار الأميركي، ولماذا الآن؟ ألا يستحضر موقفهم هذا إصرارهم على إجراء الانتخابات العراقية في موعدها، على رغم شبه الإجماع آنذاك على تأجيلها؟ ثم هل هناك من خيط يربط بين الإصرارين وبين مشروعات ومخططات إدارة الرئيس بوش في المنطقة؟ أسئلة تفرض نفسها بحكم التشابه. العراق تحت الاحتلال. لبنان تحت الوصاية. في الأول قوى كثيرة تستقوي بالقوة المحتلة. في لبنان جهات كثيرة تستقوي اليوم بالتدويل. في الأول تحكم المحاصصة الطائفية - العرقية. في لبنان أيضا يتم تركيب الوضع السياسي على أسس أشد طائفية مما مضى. والاستقواء بالخارج في لبنان، مزمن. عمره من عمر نظامه الطائفي. فهو إفراز طبيعي له. كل فريق يلتفت إلى ما وراء الحدود أو البحار إلى قوة تشد أزره، في كل مرة يحصل خلل بالتوازن الداخلي السريع العطب. والحصيلة كانت المزيد من الترهل والتطويف وبالتالي الارتهان. فالوضع السياسي في لبنان بات خائر القوى والبلد ينوء تحت أعطابه.

مر على استقلال لبنان ستة عقود والدورة هي هي: محاصصة دقيقة تقوم على شعارات أشبه بالمسكنات مثل "العيش المشترك" و"لبنان لا يطير إلا بجناحين" و"الديمقراطية التوافقية"... ثم في لحظة ما يتعرض هذا التوازن للخلل، فيسارع كل فريق من أهل "العيش المشترك" إلى الاستقواء بالخارج، ليعود الوضع إلى المربع الأول من جديد. وهكذا دواليك. فهذه الشعارات ليست إلا لحماية التركيبة الطائفية. وهذه الأخيرة لا تصنع وطنا لأنها لا تنتج مواطنا. ولذلك مر لبنان بتجارب قاسية - حرب أهلية، هيمنة سورية، اغتيالات سياسية بالجملة وزلزال الحريري - ليعود بعد كل مرة إلى المحطة الطائفية التي انطلق منها. ولا خلاص له إلا بمغادرة هذه المحطة مرة وإلى الأبد. متى يفعل؟

العدد 990 - الأحد 22 مايو 2005م الموافق 13 ربيع الثاني 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً