العدد 2406 - الثلثاء 07 أبريل 2009م الموافق 11 ربيع الثاني 1430هـ

خياراتنا الاستراتيجية... خيار العودة للصناعة

أحمد اليوشع comments [at] alwasatnews.com

تتعرض اقتصاديات دول مجلس التعاون كبقية اقتصاديات دول العالم لأزمة حادة لم يشهد لها مثيل منذ عدة عقود، وهي أزمة مصدرها المبالغة في الاندفاع باتجاه نموذج تنموي أقرب لاقتصاد الفقاعات Bubble Economy منه لاقتصاد مستقر.

واقتصاد الفقاعات هو واقع ينجم عن السياسات التي تدفع بالأسعار لمستويات مبالغ فيها وذلك بهدف تحقيق الربح على الصعيد الشخصي ولكنه يكون مدمرا على الصعيد الوطني.

وسوف نوضح في هذا المقال كيف تسبب الوضع السابق في خسارتنا للكثير، كما سنطرح الخيار الطبيعي لتقدم الأمم وذلك باللجوء لخيار التصنيع كخيار لابد منه لتطوير البحرين.


اقتصاد الفقاعات

الفقاعة هي حالة تعبر عن بلوغ الأسعار لمستويات لا تعبر عن واقع ذلك المنتج. فعلى سبيل المثال، يمكن لسعر أرض أن يرتفع ويمكن أن يرتفع لمستويات يصبح السعر مبالغا فيه. ويكون السعر مبالغا فيه لعدة أسباب من أهمها: (1) عدم قدرة المشترى الأخير الذي سيستخدم الأرض على شراء الأرض سواء لبناء منزل له أو لبناء عقار آخر، و(2) لم تطرأ تحولات على طبيعة الأرض أو الخدمات المقدمة فيها حتى يبلغ سعرها تلك المستويات.

والفقاعات تجسيد عن: (1) سيطرة المضاربين على السوق ودفعهم للأسعار لمستويات مبالغ فيها، و(2) تبني الحكومة لسياسة «دعهم يفعلون»، أي عدم التدخل في السوق للحد من تشويه المضاربين للسعر وتسببهم في فشل السوق.

وبشكل عام تقتصر الفقاعات على سوقي الأسهم والعقار ولكنها مؤخرا -وبعد امتداد المضاربة لأسواق السلع الأولية- استطاعت أن تخلق فقاعة كبيرة في هذه السوق عبر رفع أسعار الكثير من السلع الأولية كالنفط والحديد لمستويات لم يقبلها حتى منتجي تلك المواد، ووجدوا فيها أسعارا لا بد من تراجعها وليس انهيارها بالشكل الذي حصل. فالارتفاع والتراجع الحاد هو سمة المضاربة وتعبير صادق عن أن السوق مسيطر عليها من قبل المضاربين. وما لم يتم التدخل للحد من نفوذ هؤلاء المضاربين فلنا أن نتوقع أن ترتفع أو تتراجع الأسعار بمعدلات عالية تؤدي في نهاية المطاف لانهيار كبير يخسر فيه الكثيرون وعلى رأسهم الوطن مقابل ربح حفنة قليلة من المضاربين.

وللحد من تعرض اقتصادياتنا لصدمات كبيرة تتسبب بتقلبات حادة في أدائه، علينا التخلي عن هذا النوع من النماذج التنموية والبحث عن نموذج أكثر استقرارا. ومن المؤكد أننا لن نكون الوحيدين الذين سوف يفعلون ذلك بعد الأزمة الاقتصادية الحالية، الكل يبحث عن الاستقرار والواضح أننا سنلجأ لخيارات متشابهة وربما مكملة لبعضها البعض.


البحث عن الاستقرار: الصناعة البديل من أجل التقدم

تسعى الأمم للارتقاء بمستوى رفاهية مواطنيها كما تسعى للحفاظ على كل ما حققته من إنجازات وتطويرها لتكوين مجتمع منفتح ومتطور اقتصاديا للتعاضد فيه دور أساسي. وحققت الإنسانية هذا المجتمع من خلال تكوين المجتمع الصناعي. وللأسف وعلى الرغم من أننا في البحرين قد سعينا لتحقيق التقدم إلا أننا لم نسع إليه من خلال التصنيع، بل إننا لجأنا لخيارات استراتيجية تبتعد كثيرا عن الصناعة. ويرجع السبب في ذلك للنصائح التي قدمها لنا البعض، بما فيهم بعض المنظمات الاقتصادية الدولية، وأقنعونا أن خيار التصنيع هو خطر علينا وعلى استقرارنا. وقدم هؤلاء سببين يعتقدان أنهما يشكلان مصدر خطر علينا وهما: (1) أن التصنيع عملية خطرة على البيئة وسوف تتسبب في تدمير البيئة البحرينية، و(2) التصنيع عملية تؤدي إلى تكوين طبقة عاملة ستشكل قاعدة متقدمة للتنظيم العمالي للأحزاب اليسارية. من هذا المنطلق علينا البحث عن خيارات تنموية أخرى غير التصنيع.

هنا سنناقش هذين السببين ومدى واقعيتهما وهل يقدمان طرحا جديدا مخالفا لتجارب بقية دول العالم. الجواب من دون أدنى شك سيكون «لا». إننا سنقترح أن من قدم لنا هذه النصيحة لم يكن يسعى لنا بالخير ولم يضمر لنا إلا الابتعاد عن التقدم قدر المستطاع. ويعود السبب في طرحنا لهذه الفكرة للسببين التاليين:

أولا: جعلنا خيار الابتعاد عن التصنيع نبحث وبشكل متواصل عن بديل نستند إليه على المدى البعيد. وبالطبع كانت الخدمات أحد هذه الخيارات، إلا أن الواقع والتجارب العالمية تؤكد بشكل منقطع النظير بما فيها الأزمة الحالية أن خيار الخدمات هو خيار غير مستقر وذو طابع قصير المدى. بل أثبتت التجارب العالمية أنه من السهل انهيار قطاعات الخدمات في حال تعرضها لصدمة كما حصل للمصارف في الكثير من دول العالم خلال الأزمات المالية السابقة والحالية.

لذلك كنا ننتقل من خير إلى آخر ولجأنا في آخر المطاف إلى خيار العقار كنموذج تنموي جديد. وربطنا خيار العقار بقطاعات أخرى كالتجارة عبر خلق مجمعات تجارية أو سكنية كبناء مدن جديدة على نمط أمواج أو مصرفية/ تجارية كمرفأ البحرين المالي.

وفي الحقيقة لقد وعينا بعد المضي في خيار العقار لفترة لم تتجاوز الخمس سنوات أننا قد تسببنا في التأثير سلبا على بيئتنا وفي دمار جزء غير قليل منها وهو دمار أكثر بكثير مما دمرته الصناعة في فترة تجاوزت سبعين عاما. لم تتسبب صناعة النفط البحرينية -والتي بدأت في النصف الأول من ثلاثينيات القرن العشرين ولا صناعة الألمنيوم البحرينية التي بدأ العمل فيه مع بداية سبعينيات القرن العشرين- في جزء مما دمره خيار العقار خلال الخمس السنوات الماضية.

لقد كان سبب تدمير البيئة الذي طرحه علينا البعض سببا غير صحيح على الإطلاق وربما استغلوا تواضع معرفتنا بالتأثيرات البيئية للصناعة لكي يقدموا لنا سببا أدى بنا إلى تبني خيار مخالف للخيار الذي سلكته الأمم المتقدمة. وكان هذا الخيار سببا دفع باقتصادياتنا لخيارات تسببت في الكثير من الأحيان لتعرضها لصدمات سلبية كبيرة دفعنا ثمنا غير قليل لها.

ثانيا: طرح علينا أن للتصنيع بعدا خطيرا للغاية وهو بعد يؤدي إلى فرز فئوي تنجم عنه أرضية خصبة للتيارات اليسارية.

ويكمن هذا الفرز في خلق طبقة عاملة ستلجأ للانضمام للتيارات اليسارية وربما للمتطرفة منها. هذا بالطبع طرح صحيح ولكنه طرح قديم للغاية ولم يعد بالطرح الذي يحاول البعض تصويره.

فهذه أفكار تم الترويج لها في أوربا في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وكانت أفكارا تعبر عن تلك الفترة، والتي كان يتم فيها التعامل مع العامل بأسلوب السخرة. في تلك الحقبة كان العامل يعمل بما لا يقل عن 12 ساعة في اليوم الواحد ويدفع له أجر بالكاد يوفر له لقمة العيش. تلك ظروف ولت منذ زمن بعيد ومن يستمد فكره من هذا الواقع فلابد أنه يطرح أفكارا لواقع لم يعد موجودا.

وفي واقع الأمر يمكننا توضيح ذلك من خلال أحد أفضل، بل أروع تجاربنا الصناعية البحرينية وربما الخليجية. فلنأخذ نموذج صناعة الألمنيوم في البحرين وكيف تم التحول مع تطوير أسلوب إدارة العمل في تحول مصنع ألمنيوم البحرين من شركة تواجه الكثير من الصعوبات إلى شركة يعمل فيها موظفون يستمتعون بوظائفهم ويكنون الكثير من الولاء للشركة. والتحول في فكر العمال كان نتيجة طبيعية لكيفية تعامل الإدارة معهم وذلك بمنحهم بعض المكاسب التي تجعلهم عمالا فخورين بمؤسستهم أو شركتهم. هنا لا بد من التجرد بعض الشيء والقول بالحقيقة، لم تعر الإدارة في السابق -وخاصة عندما كان جزء غير قليل منها غير بحريني- أهمية كبيرة لسلامة العامل ولا منحه بعض الحقوق البسيطة. كما لم يكن لدى البحرين آنذاك الكادر الإداري البحريني الذي تتوفر لديه الخبرة ولا المعرفة في كيفية إدارة العمل في صناعة متقدمة كصناعة الألمنيوم. ولكن ومع تطور الكادر البحريني ومع استمرار العمال بالمطالبة بحقوقهم اقترب الاثنان من بعض. لقد اقتنعت الإدارة بضرورة تحقيق بعض المكاسب للعمال ليساهم في استقرار وتطوير صناعة الألمنيوم في البحرين في حين توصل العمال لضرورة قبول هذه المكاسب والمضي قدما نحو بناء الوطن والمطالبة بتحقيق المزيد إن أمكن. واليوم وبعد التحولات التي طرأت على طريقة التعامل مع العمال وقبول العمال بهذه الطريقة العادلة أصبح العامل البحريني في صناعة الألمنيوم من أكثر العاملين في البحرين المقتنعين والمحبين لوظيفتهم. فراتبه بلغ مستويات تعبر عن إنتاجيته، بل وتعد مرتفعة عند مقارنتها ببقية القطاعات، كما وفرت له الشركة الكثير من التسهيلات التي وفرت له حياة كريمة. فمن هذه التسهيلات على سبيل المثال، توفير قروض إسكانية ميسرة والعلاج المجاني وتدريس أبنائهم. أتت تلك المكاسب بتحولات كبيرة في سلوك العمل والإدارة تجاه بعضهم البعض وأبعدتهم عن خيارات التطرف، فمن منهم يريد أن يخسر كل تلك المكاسب الكبيرة؟ لقد أصبح الاعتدال سيد الموقف والتعاون لنجاح الشركة التي أعطتهم الكثير السبيل لتعامل الطرفين مع بعضهما البعض.

تلك حقيقة يمليها علينا تاريخ البحرين الصناعي، وبالتحديد تاريخ صناعة الألمنيوم، وهي حقيقة تشكل مصدر فخر واعتزاز بهذا الإنجاز وبكل من ساهم فيه من رجال ونساء صنعوا تاريخا صناعيا جميلا للبحرين وسطروا أروع صور الحب للوطن وتطوره فكونوا نموذجا متقدما يدحض أفكار المتطرفين الذين حاولوا حرف البحرين عن مسارها الطبيعي وهو خيار الصناعة كخيار استراتيجي للتقدم.

إقرأ أيضا لـ "أحمد اليوشع"

العدد 2406 - الثلثاء 07 أبريل 2009م الموافق 11 ربيع الثاني 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً