العدد 2406 - الثلثاء 07 أبريل 2009م الموافق 11 ربيع الثاني 1430هـ

تركيا الحديثة وسؤال الهوية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

مفارقات كثيرة ظهرت في مؤتمر «تحالف الحضارات» الذي عقد في اسطنبول بحضور قادة دول من مختلف القارات. فالمؤتمر الذي حمل ذاك العنوان الجميل لم يستطع تجاوز تلك العقبات الميدانية المتصلة بالتاريخ والهوية والدين والثقافة. والدعوة إلى «تحالف الحضارات» المعطوفة على «حوار الحضارات» لاتزال مثالية حتى الآن في اعتبار أن مفهوم «صراع الحضارات» أثار إشكالية واقعية عن ماضٍ من العلاقات تأسس على الصدامات التاريخية والدينية والثقافية والمصلحية.

العالم حتى الآن لايزال في طور الانتقال من محطة الاصطراع الحضاري إلى محطة التعايش أو التساكن بين الحضارات. والمرحلة الانتقالية هي محطة وسطى بين فترة شهدت تلك الصراعات وفترة تحتاج إلى وقت للتأسيس عليها. وهذا بالضبط ما يمكن رؤيته من خلال تلك المداخلات والمحاضرات «الرمادية» التي ألقيت في اسطنبول وجمعت مصادفة بين المرحلتين.

المفارقات الكثيرة قد تكون عفوية وغير مقصودة ولكنها أعطت فكرة عن تلك الصعوبات التي لاتزال تواجه مفهوم «تحالف الحضارات». فالتحالف مطلب إنساني متسامح مع الآخر ومتصالح مع الماضي ولكنه فعليا يحتاج إلى فترة نقاهة إنسانية حتى يتطور المفهوم من إطاره النظري (المثالي) إلى إطار واقعي (عملي) ينسجم مع الدعوة نحو مستقبل خالٍ من العنصرية والتمييز والتفرقة بين ثقافات الشعوب وألوانها ودياناتها.

الدعوة مثالية ولكنها شرعية ومشروعة وهي تحتاج إلى تنقية سجلات الشعوب من شوائب الماضي وتلك الأخطاء التي ارتكبت في محطات التطور الإنساني. وبسبب تلك المثالية يمكن تفهم تلك التوترات التي ظهرت فجأة في أوروبا ردا على مطالبة الرئيس الأميركي باراك أوباما بإدماج تركيا المسلمة (العلمانية) في الاتحاد. وردود الفعل الأوروبية (تحديدا الفرنسية) على خطاب أوباما تشي بوجود بقايا تاريخية تعرقل إمكانات دخول تركيا في إطار الاتحاد القاري.

الاعتراض الأوروبي، ولو بنسبة محدودة ومعقولة، على تركيا يؤكد مدى مثالية «تحالف الحضارات» وقصوره النظري في احتواء عناصر الماضي التي لاتزال تلعب دورها في إيقاظ الذاكرة في الحاضر. فالاعتراض ليس له علاقة بالنظام السياسي وحقوق الإنسان واحترام الأقليات بقدر ما يشكل نقطة احتجاج على الماضي والتاريخ والهوية والثقافة والدين.

مشكلة تركيا ليست في السياسة والنظام والعلمانية (الجمهورية الأتاتوركية) وإنما في الدين. فهي دولة مسلمة ذات تاريخ عنيف في أوروبا الشرقية. والعنف التاريخي المتبادل تركز بين الحضارتين الإسلامية والأوروبية على سؤال الهوية وما يعنيه من أجوبة تتصل بالثقافة والسلوك واللغة والمصالح والمواقع والدور. وكل هذا العنف التاريخي كان له وظائفه في الماضي ما أدى إلى ترسيم هوية الحضارات وتحديد انتشارها في الجغرافيا السياسية وتقاطع خطوط التجارة والمواصلات.

لم يقتصر سؤال الهوية في اسطنبول على الاعتراض الأوروبي المهذب والبروتوكولي والدبلوماسي على دعوة أوباما لدخول تركيا إلى الاتحاد وإنما توسعت حدود السؤال لتشمل محاكمة تركيا على تاريخها البعيد والقريب. فالمحاكمة تجنبت الإدانة العنيفة احتراما لتقاليد الضيافة ولكنها من بعيد حاولت فتح ملفات تتصل بالماضي وتلك الروايات المنقولة عن حجم وطبيعة المجازر التي ارتكبت في 1915 ضد الأقلية الأرمنية (المسيحية).

محاكمة تركيا على تاريخها وماضيها يثير حساسية بالغة الدقة في توازن الشخصية الحضارية للسلطنة العثمانية. والمحاكمة العفوية واللطيفة التي مرت في تضاعيف المحاضرات والمداخلات تدل على مأزق «تحالف الحضارات» وتلك الصعوبات التي تواجه مفهوم «التحالف» في مرحلة انتقالية بين محطة تاريخية وأخرى. فالمرحلة لاتزال في بداياتها الزمنية وتحتاج إلى تراكم في تجارب التعايش والتساكن (التعارف في المفهوم القرآني) حتى تؤسس قاعدة متينة يمكن الاعتماد عليها لتحقيق خطوة انعطافية في علاقات الغرب بالشرق والشمال بالجنوب.

أوروبا تبدو غير مستعدة نفسيا لتقبل «الغريب» التركي وغير مؤهلة ثقافيا لاستيعاب «الأجنبي» المسلم. فالتركي - المسلم لايزال حتى الآن يمثل ذاك الطرف الدخيل على التاريخ الأوروبي المتنوع الثقافات والأقوام والطوائف والمذاهب واللغات وأيضا المتحد في غالبيته العظمى في الديانة المسيحية.


عثمانية وأوروبية

«سؤال الهوية» يثير فعلا علامات استفهام بشأن مدى نجاح مفاهيم مثالية في عالم يعيش الماضي ويسقطه على حاضره. وهذا السؤال شكل مفارقة بين تاريخ وآخر في إطار الطموح نحو عالم يرتكز على صيغة «تحالف حضارات» تتجاوز إشكالات «التناحر» و«التصادم» و«الصراع».

أوباما في خطابه حاول التمييز بين تركيا الأوروبية (العلمانية الجمهورية) وتركيا المسلمة (العثمانية) معتبرا أن الجانب الأول هو الأقوى في المعادلة الحضارية ما يذلل العقبات ويفتح الأبواب لدخول دولة قادرة على تعزيز القارة وتقويتها في الحاضر والمستقبل.

الرد الأوروبي (الفرنسي) على دعوة أوباما مزج بين الهوية والتاريخ. فالهوية تحتاج إلى امتحان والتاريخ يتطلب محاكمة. والمحاكمة تبدأ بالاعتراف وتنتهي بالإدانة.

الرد التركي على الدعوة الأميركية والاعتراض الأوروبي اتسم بالضياع والحيرة وعدم الوضوح. فمن جانب تريد اسطنبول الدخول إلى القارة ومن جانب لا تريد التخلص من تاريخها وهويتها مقابل وعد تبدو احتمالات تنفيذه مؤجلة. وبسبب تذبذب الرد التركي جاء الاعتراف بحصول مذبحة في سياق إعلان البراءة من تاريخ السلطنة العثمانية وتأكيد نزاهة «الجمهورية العلمانية» من أفعال ارتكبتها سلطات غير حديثة في دستورها.

الاعتراف التركي الغامض ليس رسميا ولكنه يشكل خطوة دفاعية في وجه حملة مركزة تعرضت لها اسطنبول منذ سنوات. وانتقال الموقف الرسمي التركي من الهجوم (الإنكار الكلي) إلى الدفاع (القبول الجزئي) يرسل إشارات غير واضحة بشأن «تحالف الحضارات» ومدى إمكان اتساع دائرة التحالف لتشمل اعترافات أوروبية بشأن مجازر ومذابح ارتكبتها في تاريخها الطويل ضد الأقليات سواء داخل القارة أو خارجها.

الاعترافات الأدبية ليست كافية لأن الوقائع التاريخية تحتاج إلى قراءات وتحقيقات حتى تكون صورة العلاقات الحضارية واضحة في معاييرها الثقافية والإنسانية. والتهرب التركي (العلماني الجمهوري) من التاريخ العثماني ليس بالضرورة يعطي الجواب الواضح عن سؤال الهوية. فالتهرب يجانب الحقيقة في اعتبار أن المجازر ضد الأقليات (المسيحية الأرمنية) حصلت بعد انقلاب حزب الاتحاد والترقي (الجمهوري العلماني) على السلطان العثماني وعزله عن السلطة وإنهاء دوره في القرار السياسي.

المذابح حصلت في لحظة تاريخية ملتبسة كانت خلالها تركيا تمرّ في فترة انتقالية من السلطنة إلى الجمهورية ومن الإسلام (العثماني) إلى العلمانية العسكرية (الاستبداد الأتاتوركي). وتهرب الحكومة التركية الآن من المسئولية الرسمية عن تاريخ الدولة في محطة انتقالية ملتبسة يشير إلى تلك الصعوبات التي لاتزال تواجه مفهوم «تحالف الحضارات». فالتحالف حتى يتطور إلى صيغة حضارية لابد له من التصالح مع الماضي والتسامح مع الآخر. وهذا الاحتمال يصعب تصور حصوله في بلد يعاني من أزمة هوية مفتوحة تتعارض ثقافيا بين طموح أوروبي وشخصية عثمانية. والأزمة نفسها يمكن سحبها على القارة التي تعاني من أزمة هوية تتعارض ثقافيا بين رؤية أوروبية للمستقبل وإسقاطات ماضوية على الحاضر.

مفارقات كثيرة ظهرت في مؤتمر «تحالف الحضارات» وهي في مجموعها العام كشفت عن وجود ثغرات تاريخية تعطل التحالف وتمنع تطوره السريع باتجاه تجاوز فجوات سلبية ترتسم في دوائر الهوية التركية الحديثة وتعارضها مع شخصيتها الثقافية والدينية الموروثة.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2406 - الثلثاء 07 أبريل 2009م الموافق 11 ربيع الثاني 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً