قرأت منذ فترة أن أحد المسئولين في وزارة الصحة أعطى نصيحة للمراجعين مفادها "اطرحوا قضاياكم عبر الصحافة حتى نهتم نحن بها في الوزارة"! أتصور أن النصيحة تصرف شخصي من قبل ذلك المسئول، لأنه لا يوجد هناك مسئول يتحمل المسئولية ويؤمن أن الاهتمام يأتي من خلال الصحافة، وأتمنى ألا يأتي اليوم الذي نهتم فيه بالقضايا التي تنشر في الصحافة فقط. على رغم أن الإعلام سلاح ويجب أن يستغل فإنه لايزال هناك الكثير من الناس يجهلون هذا السلاح، ولا يعرفون كيفية التعامل معه أصلا. وأستدل على ذلك من خلال قصة حقيقية عايشتها بنفسي وأنقلها إليكم، لعلي أجد من الوزارة المعنية "وزارة الصحة" حلا لها، كان بودي ألا أثيرها من خلال هذا الموقع لأن هناك حتما قنوات أخرى يجب ان تستغل، ولكن ذلك يحصل ربما تماشيا مع نصيحة ذلك المسئول وأريد أن تأكد من ذلك بنفسي.
اتذكر جيدا قبل أسبوعين على الأقل أني ذهبت إلى قرية المعامير في الليلة نفسها التي أقامت فيها جمعية الوفاق بالتعاون مع المجلس البلدي بالوسطى ندوة عن "حقيقة غاز المعامير"، ذهبت في زيارة تفقدية لاحدى الأسر التي عند سماعي لوضعها توقعت أنها لربما كباقي الأسر التي تضررت من غاز المعامير ليس الآن وإنما منذ زمن بعيد، فلا ننسى أن شركة "بابكو" موجودة منذ 70 عاما، أي منذ عمر طويل، وقصة التلوث والأضرار قصة حديثة قديمة، وأخيرا تم تسليط الضوء عليها بشكل كبير جدا ولكن ذلك حتما لا يعني أن الأهالي لم يكونوا متأثرين به إلا حاليا.
الأسرة التي ذهبت إليها بمعية مجموعة من الاخوة والأخوات سأحدثكم عنها وعن أوضاعها من منطلق إنساني بحت، موجهة نداء خاصا الى وزارة الصحة أدعوها فيه إلى الاستماع والعمل على إيجاد مخرج لهذه العائلة قبل فوات الأوان من منطلق إنساني... القصة تتحدث عن 5 أفراد من الأسرة مصابين بإعاقة عقلية "جنون" من أصل 8 أفراد، الوضع الذي تعيشه الأسرة وضع مأسوي مركب أي انهم حتما تأثروا بالغازات المنبعثة منذ زمن بعيد ولكن قلة الوعي لدى الأسرة لم يجعلها تضع النقاط على الحروف، كما أن بساطة الأسرة وقلة وعيها لم يجعلاها تستغل سلاح الإعلام بالشكل الكافي لحل احدى مشكلاتها على الأقل، وبالتالي لايزالون يدورون في حلقة مفرغة علهم يعرفون السبب الحقيقي وراء الاعاقات العقلية المتكررة، وخصوصا أن تاريخ عائلة الزوجة والزوج نظيف ولا يوجد فيه اي نوع من أنواع الاعاقات، موقف الأم موقف صعب جدا فقد كانت تبكي وكان الأب ايضا موجودا وعند سماعه صوت زوجته وهي تتحدث عن أوضاعهم أخذ يبكي، وخصوصا أن ابنهم - الذي وعدهم بأنه سيخلصهم من الهم الذي تعيش فيه الأم والمعاناة الحقيقية التي تعانيها من خلال رعايتها ومتابعتها لخمسة كبار من ذوي الاحتياجات الخاصة في ظل عدم توافر الامكانات، وفي ظل أسرة تعاني من الفقر والحرمان - قد توفي بسبب السرطان ليكون هو نفسه ضحية من الضحايا الذين راحوا بسبب التلوث... ألم أقل لكم ان هذه الأسرة تعاني من وضع مأسوي مركب، الأم تندب حالها وتصيح وتصرخ وتقول: "الابن السليم الذي وعدني أنه سيغير حالي ذهب عني دون أن يحقق ما وعدني به، ولم يكن لي بعده عون إذ كان حينها الظهر الذي استند عليه، لأنه السليم الذي اتحدث إليه وأعبر عن شجوني، توفي منذ 8 سنوات"... إلى الآن لم تدخل الأم غرفته، إذ بقيت أسيرة الغرفة التي تعيش فيها مع أبنائها المصابين بإعاقة عقلية إلى جانب ان بعضهم يعاني من صرع ما زاد الطين بلة، وأذكر هنا أن الصغيرة التي تبلغ من العمر 18 عاما زادت الإعاقة إلى أخوتها من خلال العض الذي تمارسه، فقد تورمت أجسامهم وزادت إعاقتهم... وهنا للام رجاء الأم بأن تجد لهذه البنت مكانا يؤويها لأنها لا تستطيع النوم طوال الليل منها كما لا يستطيع أحد ممن معها في الغرفة ان ينام من الصراخ الذي يصدر منها إلى جانب عدوانيتها، تصوروا أن الأم تضطر لحاجتها الماسة إلى النوم والراحة بعد يوم ثقيل من الرعاية المستمرة لهم الى ان تنام في ممر المنزل لأنه لا مكان آخر تستطيع الاحتماء به كما أنها لا تستطيع أن تنام معهم بسبب شجارهم الدائم طوال الليل، فلكم ان تتوقعوا أن تقوم الأم بتحميم خمسة من أفراد أسرتها، في سن كهذه، هذا فقط على سبيل المثال.
المشكلة هنا مركبة، مشكلة سكن ومأوى، ومشكلة فقر وحرمان، ومشكلة إعاقات عقلية متنوعة متوسطة وشديدة. أتعجب هنا... ألم يكن أجدى بوزارة الصحة وتحديدا مستشفى الطب النفسي أن يؤوي مثل تلك الحالات؟ فما ذنب تلك الأسر فيما لو كانت طاقة المستشفى لا تتحمل تلك الأعداد، كما أنه يجب ان يوضع الحالات العصبية كحال تلك الأسرة على سبيل المثال في الاعتبار فعدد ممن يعانون إعاقة عقلية 5 يمثل عبئا كبيرا على الأسرة فالتعامل معهم صعب، وخصوصا أنه لا يوجد عاملة في البيت فالتركيز يكون على الأم، لماذا لا تخصص الوزارة على سبيل المثال "خادمة" للأسرة، ولا ننسى أن أحد الابناء وصل إلى مرحلة البلوغ وهو الآن في العشرينات من عمره وبالتالي يجد صعوبة في وجوده مع اخوته، ولا أخفي عليكم أنني وجدته مربوطا بحبل في ساحة المنزل، يتحرك كيفما يشاء ولكن لا يستطيع الدخول إلى أي مكان.
ذاكرتي لا تستطيع نسيان ما شاهدته، تأثرت كثيرا لما رأيته، وآمل في إيجاد مخرج مناسب لهذه الأسرة، ولعل وزارة الصحة أقدر مني على فعل ذلك، فكل ما تطلبه الأسرة هو ايواء البنت الصغيرة ذات الثمانية عشر عاما والابن البالغ لصعوبة بقائه مع اخوته في البيت نفسه، وتوفير خادمة تعين الأم، أتصور أن ذلك لا يعد أمرا صعبا على وزيرة الصحة، صاحبة القلب الكبير، واليد الحنونة
إقرأ أيضا لـ "سكينة العكري"العدد 989 - السبت 21 مايو 2005م الموافق 12 ربيع الثاني 1426هـ