العدد 989 - السبت 21 مايو 2005م الموافق 12 ربيع الثاني 1426هـ

زهور محطمة... باب لا يقرع وابن مفاجئ يأتي من الذاكرة الهرمة

رحلة الذكر الأميركي إلى ماضيه في فيلمين لفندرز وغارموش

يعتبر الألماني فيم فندرز والاميركي جيم غارموش، الأبرز بين المخرجين الذين يطلق عليهم اسم "ابني كان". .. وذلك في كل مرة يشاركان فيها في إحدى دورات هذا المهرجان الفرنسي الذي يدنو الآن من عامه الستين.

طبعا فندرز وغارموش ليسا وحيدين في هذه الفئة، لكنهما عادة الأكثر حضورا والأكثر اجتهادا. وقد اعتاد "جمهور" كان ان ينتظر مشاركتهما بشغف، حتى وإن كان الأمر يسفر عن خيبة أمل في بعض الأحيان. ولكن هنا حتى خيبات الأمل يمكن نسيانها بسرعة، لأن كلا من فندرز وجارموش يعرفان كيف ينهضان من بعد كبوة ما.

وهذا العام يشارك الاثنان في الدورة الحالية... وعلى الأقل واحد منهما، هو غارموش، يبدو مرشحا حقيقيا للفوز بواحدة من الجوائز الأساسية "الإخراج والتمثيل بطل فيلمه بيل موراي" إن لم يكن بالسعفة الذهبية، وسيكون هذا الفوز، إن حصل، جديدا بالنسبة إلى غارموش الذي شارك حتى الآن 6 مرات في "كان" و3 منها في المسابقة الرسمية لكنه لم يفز إلا بجائزة الكاميرا الذهبية عن فيلمه الأول "اغرب من الجنة" "4891". أما فندرز الذي لا يحظى كما يبدو بحظوظ فوز كبيرة، فانه سبق أن فاز مرات عدة بجوائز، من بينها السعفة الذهبية في العام 4891 نفسه عن فيلمه الرائع "باريس / تكساس".

مهما يكن من الأمر فإن فيلم "باريس/ تكساس" هو الذي يخطر على البال، حين شاهد المرء فيلم فيم فندرز الجديد "لا تأت قارعا الباب"... أما بالنسبة إلى فيلم جيم غارموش الجديد، والمميز "زهور محطمة" فإن ما يخطر على البال ليس أي فيلم سابق من أفلامه التي جعلته سيدا من سادة السينما الأميركية المستقلة، بل تحديدا نوعا من السينما الواقعية الاميركية الجديدة، من اعلامها اليوم الكسندر باين "في طرق جانبية" وصوفيا كويولا "في ضاع في الترجمة". وليس فقط بالنسبة إلى هذا الأخير، لأن بيل موراي يمثل فيه، وفي فيلم غارموش... وبالمستوى والأداء نفسيهما تقريبا.

ولد... وأكثر

فماذا لدينا في فيلمي غارموش وفندرز؟

ببساطة اطلالة على أميركا... وتحديدا على الذكر الأميركي، يبد أن القواسم المشتركة بين "زهور محطمة" و"لا تأت قارعا الباب" لا تتوقف هاهنا. بل هي كثيرة وملفتة. ومنها في المقام الأول من الشخصيتين الرئيسيتين، دون جونستون "بيل موراي" في "زهور محطمة" وهوارد سبنس "سام شيبرد" في فيلم فندرز. فكل منهما في الخمسينات من العمر. وكل منهما، في سياق الفيلم يقوم برحلة إلى ماضيه. وكل منهما يكتشف أن له ولدا... بل ولدين بالنسبة إلى هوارد سبنس. وكل منهما ينتهي كما بدأ من دون أن يحدث ذلك الاكتشاف من اثر مهم في حياته.

من الواضح أن الصدفة وحدها هي التي جعلت اميركيا هو الأكثر أوروبية بين الأميركيين، وألمانيا هو الأكثر بين الأوروبيين، يتطرقان في الوقت نفسه إلى موضوع واحد: موضوع محاولة التمسك بالماضي من خلال ابن كان وجوده نفسه مجهولا. ولكن من الواضح أن هذا الموضوع يكاد يكون موضوعا أثيرا لدى نوعية معينة من المخرجين. وبالتالي من المؤكد ان تكاثر هذا النوع من الأفلام "في دورة "كان" لهذا العام وحدها، أكثر من 6 أفلام تتطرق إلى الموضوع نفسه" سيشكل فرصة جيدة للتعمق في هذه الظاهرة وفي انتظار ذلك لا بأس من اطلالة هنا على فيلم فيم فندرز وجيم غارموش.

أضاع الفرصة

في "لا تأت قارعا الباب" الذي يعود فيه فندرز إلى العمل مع سام شيبرد، أحد أكبر ممثلي وكتاب اميركا طليعية، وابن سنوات الستين بامتياز، بعد فراق دام نحو 02 عاما تلت اشتراكهما في كتابة "باريس / تكساس"، لدينا كل العناصر التي لطالما شكلت عالم فيم فندرز: السينما موضوع، العائلة، الرحلة على الطريق، اللقاءات العابرة. اننا في هذا كما لو كنا امام خلاصة عمل فندرز ككل... ولكن هذه المرة من خلال حكاية نجم أفلام رعاة بقر، هو هوارد سبنس... بدأ نجمه يأفل وها هو الآن يفرق أيامه في الشراب والنساء والكتابة. وذات لحظة يقرر أن يترك تصوير آخر مشاهد الفيلم الذي يمثل فيه، وأن يعود الى مسقط رأسه: مدينة اشباح هي بيوت، كانت ذات يوم مركز تحركات عمالية سيارية يوم كانت مزدهرة بالمناجم، لكنها اليوم تكاد تكون خالية من السكان. إذا، يهرب هوارد من التصوير، ويعود إلى أحضان أمه التي لم يرها طوال 03 عاما، فتفاجئه بأن له ابنا من عشيقة سابقة لم تعش في المدينة. وهكذا تختلط الأمور على هوارد، بينما مندوب شركة التأمين يبحث عنه لكي يعيده قسرا إلى تصوير دوره في الفيلم. ويقصد هوارد مقهى في المدينة ليرى شابا وسيما يغني، ثم يلتقي عشيقته السابقة، التي تخبره أن هذا المغني هو ابنه. في الوقت نفسه ثمة فتاة تتأبط إناء فيه رماد أمها الميتة، وتبحث عن... هوارد.

هي الأخرى ابنته كما يبدو، من عشيقة ثانية. ولكن فيما "الابنة" تود لقاءه، ها هو الابن يرفضه تماما. وعند هذه النقطة يكون الفيلم الذي حققه فندرز قد تحول من تحفة سينمائية "استغرقت ثلثي زمن الفيلم" إلى شريط عادي يقترب أحيانا من حدود السخف ومن الواضح هنا أن فندرز انما اضاع فرصته في تحقيق فيلم متكامل كبير يستعيد به أمجاده القديمة يوم كان يوقع افلاما رائعة مثل "باريس/ تكساس" وأجنحة الرغبة" و"على مر الزمن".

رحلة الماضي

هذه الفرصة لم يضعها، من جهته جيم غارموش... حتى وان كان كثر أخذوا عليه بساطة فيلمه وطابعه الذي لا يخلو من أبعاد تجارية... ذلك أن هذا الفيلم "يجازف" بأن يعجب الجمهور العريض... وليس فقط لان بيل موراي يؤدي فيه واحدا من أجمل ادوار حياته. ولكن ايضا لأن الفيلم نفسه، إذ يقوم على اساس رحلة "4 رحلات بالأحرى" يخلق للمتفرج عليه متعة معرفية. ناهيك أنه يغازل البعد الثقافي الخفي لدى كل إنسان: اذ هنا تكون واحدة من مثل هذا الفيلم، عملية سبر المراجع وفهم المفاتيح. وذلك أن "زهور محطمة" هو فيلم مفاتيح وليس ادل على هذا من الأسماء التي اعطاها غارموش لشخصياته. فالبطل اسمه دون جوتستون "وهو اسم لا يبتعد كثيرا عن دون جوان" وصديقه الزنجي الجار ويدعى ونستون "يمكن ان يقرأها واطسون تيمنا بشريك شارلوك هلمز في روايات ارثر كونان دويل". وهذا الصديق بسبب هوايته الأدب البوليسي ينصح دون، إذ تصله رسالة من امرأة تخبره ان لها منه ابنا في العشرين يبحث عنه، ينصحه لمعرفة من هي ام الولد وكاتبة الرسالة بأن يزور النساء اللواتي كان على علاقة معهن قبل 02 عاما، ويحدد العدد بخمسة إحداهن ماتت. اما الباقيات فهن لورا التي لها ابنة حبيبة مغرية تدعى... لوليتا "من اسم بطلة فيلم "لوليتا" الذي حققه كوبريك عن رواية "فلاديمر فابوكوف" والثانية تدعى دورا، على اسم حبيبة وضع عنها فرويد، عند نهاية القرن التاسع عشر دراسة تعتبر مفتاحا أساسيا من مفاتيح التحليل النفسي. والثالثة كارمن على اسم بطلة اوبرا جورج بيزيه الشهيرة. أما الأخيرة فتدعى "بيتي" على اسم بطلة أغنية معروفة لفريق البيتلز.

إذا، رحلة دون تقوده إلى كل هذه النساء... ليسبر أغوارهن ويتحرى حياتهن أملا منه في ان يعرف من هي صاحبة الرسالة ذات اللون الزهر. فيكتشف ان لون الزهر موجود لدى كل واحدة منهن... وان كل واحدة يمكن ان تكون أما أولا تكون.

فهنا في فيلم غارموش الجديد هذا، ليس حل اللغز ما هو مهم... المهم هو الرحلة التي يقوم بها ذلك الذكر الأميركي الستيني في ماضيه، من خلال النساء اللواتي عرفهن. ولكن أيضا بشكل جانبي - من خلال الثقافة التي صنعته. أما في النهاية فإن المخرج يترك فيلمه حائرا، كما بطله - أو من خلال عيني بطله - لأن دون إذ يعود إلى بلدته إذ يعيش عاطلا عن العمل، سيلاحظ وجود شاب غريب. فيدعوه إلى الطعام أملا أن يعرف ما إذا كان هذا هو الابن.

لكن الفتى بعد نقاش فلسفي مع دون يتركه هاربا... فيما تقترب - في لقطة أخيرة - سيارة فيها فتى آخر أبله النظرات، نظر إلى دون الواقف وسط الطريق كأنه يبحث عن أحد. وفيما تخطى السيارة دون، من دون أن تتوقف تبقى نظرات هذا الأخير جامدة من دون دلالة... حائرة. ينتهي واحد من الأفلام التي صفق لها جمهور "كان" أكثر من غيرها... وأقبل المشترون على شراء النسخ بشكل ملفت

العدد 989 - السبت 21 مايو 2005م الموافق 12 ربيع الثاني 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً