الثلثاء الماضي 17 مايو/ أيار، تلقيت نوعين من ردود الفعل على مقالي المنشور في ذلك اليوم بعنوان "كلفة التدهور المهني الباهظة". الاول من صديق بعث لي في الصباح الباكر برسالة نصية عبر الهاتف النقال يمتدح المقال. أما رد الفعل الثاني فكان مكالمة هاتفية من صديق مسئول باحدى الصحف المحلية يستفسر فيها عن اسم الصحافي موضوع المقال. وعندما ابلغت هذا الصديق باسم المعني بالمقال، اجاب بانه لا يعرفه ولم يسمع به.
عدا ذلك، لم اتلق اي رد فعل او استفسار حتى من باب الفضول، أقله من عشرات الصحافيين يتوزعون على اربع صحف يومية وغيرها من المجلات وبعضهم ممن عاصر هذا الصحافي "المنسي". في مقالي ذاك اشرت الى ان النسيان قد يكون اكثر قسوة من قرار غير مكتوب بمنع هذا الصحافي من العمل في الصحافة المحلية، وها أنتم ترون فداحة النسيان. حقا ان البحرينيين نساؤون واذا كان عدم صدور اي رد فعل او استفسار يحركه الفضول المجرد يقترح علينا شيئا فهو واضح: نحن سلبيون.
وفي اليوم التالي "الاربعاء"، كنت اترجل من السيارة في محطة لغسيل السيارات في مدينة عيسى قبل ان يقترب مني غلام صغير في السابعة من العمر مادا يده صوبي بصمت. كان نحيفا للغاية وقسمات وجهه مسترخية تفيض وداعة كمن اعتاد عمله. لكن عينيه كانتا تفيضان بوميض غامض. لحظة ان حدقت في عينيه شعرت بالانكسار والضعف امام نظرات لم ار لها مثيلا طيلة حياتي. نظرات مخلوق ضعيف وبائس لكنها تبدو مثل سهم من نار يخترق القلب. شعرت وكأنني مشلول مسلوب الارادة امام نظرته التي تفيض وجعا واتهاما، لم يشح ببصره وانا احدق فيه بل ظل مسمرا في مكانه ويده النحيلة لاتزال ممدودة ونظراته تزداد انكسارا وتزيدني انكشافا وألما. طلبت منه ان يقترب، فضاعف آلامي بعفويته وهو يستجيب لطلبي ويجلس بالقرب مني وملامحه أصبحت مثل صفحة ماء رائق.
حكى الصغير حسين حكايته مستجيبا لاسئلتي. الوالد متوفى والأم لا تعمل. ولكي تعيش العائلة بالحدود الدنيا من متطلبات العيش، فان حسين ذا السنوات السبع يطوف الشوارع طالبا الصدقات لأمه واخته الصغيرة. هل تذهب الى المدرسة يا حسين؟ نعم انا في الصف الاول الابتدائي. اليس لديك اخوة كبار؟ كلا انا الأكبر. اليس لديكم اهل؟ لا احد يسأل عنا. نعم، لا احد يسأل عنهم وهذا الغلام الذي يفيض وداعة وبراءة تناول بضع دنانير وانصرف وترك لي غصة فرضها استدعاء لا مفر منه من الذاكرة: ان تتخيل ابنك مكان هذا الصغير. كان عبدالقادر عقيل قد أسر لي انه كتب روايته "أيام يوسف الأخيرة" بدافع من غصة مماثلة.
كان عبدالقادر يهم مع ابنه بدخول مطعم للوجبات السريعة قبل ان تقع عيناه على ثلاثة اطفال يقفون امام الواجهة الزجاجية للمطعم يحدقون في الداخل بلهفة محروم. غصة عبدالقادر دفعته الى ان يطلب وجبة للاطفال وان يكرس رواية بأكملها لهم.
كم طفلا يستجدي في الشوارع؟ ان اجبتم بان هذا مشهد مألوف، فقد وضعتم يدكم على العلة الكامنة فينا. فان يصبح مشهد الاطفال يتسولون في الشوارع منظرا مألوفا، فان هذا ليس سوى علامة على سلبيتنا القاتلة.
لكن السلبية ستظل تعبيرا مخففا للغاية ومترفقا وفي مثالين عايشتهما على مدى يومين متتالين، تبين لنا مقدار الاذية في ان يصبح زملاء المهنة على هذا النحو من السلبية تجاه بعضهم وكيف ان مشاهدة الاطفال المتسولين بات امرا اعتياديا.
الآن الكل يتحدث عن مستويات المعيشة وعن الفقر والغلاء والتضخم والعائلات التي لا تستطيع توفير حقيبة مدرسية أو وجبة لابنائها. لكن عندما فكر البحرينيون في حلول، لم يستطيعوا ان يقدموا شيئا خارج سلبيتهم. فالفقر بات له مذاهب ومناطق واسماء وأعراق، فانتشرت الصناديق الخيرية المطأفنة. وفي الثمانينات، راحت السلطات تحارب التسول باحتجاز المتسولين في دار مخصصة لهم. والتعريف النهائي للتسول على اية حال في القوانين يبقى في باب التجريم، فيما الظاهرة الآن تحتاج ما هو أكبر من مجرد التجريم.
جاء وقت الديمقراطية والتعددية، فتجلت سلبية البحرينيين في افضل صورها. تمعنوا جيدا في المشهد كله، لن تجدوا غير التوتر والمشاحنات. حياة سياسية مليئة بالمكايدات والمشاحنات. يقولون مجتمع مدني ولا نرى سوى جمعيات من كل الاشكال لا هم لها سوى التشويش على بعضها ومكايدة بعضها. فاولئك الذين لا تستوقفهم مأساة انسان واجه حربا في رزقه الى ان تداعت احلامه وحياته، واولئك الذين لا يحرك فيهم مشهد اطفال متسولين اي شعور، لن يستطيعوا ان يقدموا سوى استعراضات في السلبية وتصحر المشاعر الانسانية
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 988 - الجمعة 20 مايو 2005م الموافق 11 ربيع الثاني 1426هـ