تضخمت في الآونة الأخيرة "النصائح" الأميركية للعراق والعراقيين. وزيرة الخارجية الأميركية كوندليزا رايس نصحت الحكومة العراقية بمشاركة "السنة العرب" في صوغ الدستور. ونصحت أيضا الشعب العراقي بالاقلاع عن العنف واعتماد بدائل سلمية للحوار السياسي. وبدوره نصح مساعد وزير الخارجية الأميركي روبرت زوليك في زيارته الأخيرة الحكومة العراقية بايجاد بديل للعنف بضم "السنة العرب" إلى العملية السياسية. ودعا زوليك في نصيحته المسئولين العراقيين إلى التصدي للعنف الطائفي.
ماذا تعني هذه "النصائح" الأميركية في وقت يشهد العراق تداعيات سلبية نتيجة الاحتلال وإقدام واشنطن على تقويض الدولة ونشر العنف وتهديد دول الجوار بإعادة تشكيل خريطة "الشرق الأوسط"؟ ماذا تعني هذه "النصائح" المتأخرة وبعد "خراب البصرة" وبغداد... وكل العراق؟
"النصائح" المتأخرة تشير إلى كثير من الاحتمالات، منها أن الولايات المتحدة أقلعت عن استخدام تلك اللغة الانتصارية التي أطلقتها بعد سقوط بغداد، ومنها أن واشنطن قررت السير في نهج جديد يعيد النظر في تلك الاستراتيجية التقويضية التي تقوم على نظرية "الفوضى البناءة" أو زعزعة الاستقرار في المنطقة تمهيدا لإعادة هيكلة دولها وفق نموذج يتناسب مع المصالح الأميركية وحليفها الدائم "إسرائيل".
اللغة الأميركية كما بدت من تصريحات رايس - زوليك الأخيرة أكثر تواضعا من تلك التي استخدمت في بدايات الحرب وبعد سقوط نظام صدام. سابقا لجأت إدارة البيت الأبيض إلى التهديد والوعيد وأعلنت مرارا أن العراق هو الخطوة الأولى وستعقبها أخرى ضد دول المنطقة. وأكدت الإدارة أن أهدافها "إنسانية"، وافصحت عن أنها تريد من "الحروب الدائمة" و"الضربات الاستباقية" تقديم خدمة لشعوب المنطقة ومساعدتها على النهوض والتنمية الاقتصادية واشاعة الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان. فالحرب على المنطقة ودولها في نظر واشنطن آنذاك "شرعية" في الجوهر. فالأهداف العادلة تبرر الوسيلة الشريرة وهي في النهاية ستعطي نتائج مثمرة حتى لو أدت إلى اتباع أساليب البطش. فالنهاية السعيدة برأي جورج بوش ستجعل شعوب المنطقة تطير فرحا من تلك الحروب المدمرة للبنى التحتية والممزقة للنسيج الاجتماعي للجماعات الأهلية.
هذه اللغة كما يبدو استخدمت بداية للتضليل. فهي من جهة تخدع الناخب الأميركي وتبرر له هذا الإنفاق الهائل لموازنة الدفاع والحروب، وهي من جهة أخرى تغش شعوب المنطقة وتزرع في قلوبهم مجموعة أوهام وآمال... تحتاج إلى سنوات من التطور والتطوير للوصول إليها.
هذه اللغة الكاذبة وصلت إلى نهايتها كما تبدو الأمور من ظاهرها. فالآن أخذت الإدارة تعتمد لغة متواضعة وأكثر واقعية بعد أن استنفدت كل مفردات الضحك على الشعوب المسكينة والسخرية من مشاعرها وحاجتها الفعلية إلى التغيير.
هناك لغة جديدة إلى حد ما، ولكنها مخادعة أيضا. ومصدر الخداع أن واشنطن تقلب الحقائق وتغيب الفاعل وتتستر على الجهة المسئولة عن تقويض العراق ودولته وتفخيخ العلاقات التقليدية بين جماعاته الأهلية وزرع الكراهية المتبادلة ودفع الناس باتجاه فتنة طائفية مخيفة.
نصائح رايس للحكومة العراقية مخادعة؛ لأنها تخفي الأسباب وتتحدث عن النتائج وتتنصل من مسئولية الطرف الذي أوصل العراقيين إلى هذه الحال التي يرثى لها. كذلك نصائح زوليك كاذبة فهو يدعو العراقيين للاقلاع عن العنف والتصدي للفتنة الطائفية المحتملة في وقت يدرك أن إدارته مسئولة أمام العالم والتاريخ... لأن سياستها أوصلت العراق إلى شفير كارثة سياسية تحتاج إلى بعض الوقت لتفجيرها. وفي حال وقعت الواقعة فعلى العراق "الدولة والمجتمع" السلام... مع عدم استبعاد احتمال توسع رقعتها وانتشارها في المنطقة.
اللغة الجديدة لا تعني بالضرورة أن هناك سياسة أميركية جديدة. فالسياسة لم تتغير. والأهداف من وراء تلك الحروب والتهديدات لم تكن غايتها تطوير المنطقة وتنميتها وإنما دفعها بالقوة الخارجية إلى المكان "النموذج" الذي وصل إليه العراق الآن. فالعراق الآن دولة غائبة عن المسرح السياسي العربي، وهو مشغول بتناقضاته الداخلية التي أخذت تتغذى من دماء أهله في مختلف المناطق والطوائف.
لغة رايس - زوليك التصالحية هي الوجه الآخر لذاك الانتصار الذي أعلن عنه بوش قبل أكثر من سنتين. فهي لغة تخدع وتتنصل من المسئولية وتحذر من كارثة لعبت واشنطن الدور الأساس في إنتاجها
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 988 - الجمعة 20 مايو 2005م الموافق 11 ربيع الثاني 1426هـ