العدد 987 - الخميس 19 مايو 2005م الموافق 10 ربيع الثاني 1426هـ

قيام دولة السلاجقة وصعود المدارس الأصولية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

دشن سقوط بني بويه في بغداد ودخول السلاجقة عاصمة الخلافة بموافقة القائم بأمر الله العباسي سنة 447هـ "1057م" مرحلة جديدة في الديار الإسلامية. فالدولة الجديدة ستكون على خلاف سياسي قوي مع الدولة الفاطمية، وستقدم على تأسيس علاقات مغايرة لتلك التي نظمتها الأسرة البويهية.

التأسيس الجديد للعلاقات لن يكسر قواعد اللعبة السابقة ولكنه سيحدث تغييرات في تلك القواعد مستفيدا من تجارب الماضي. فالماضي ليس سيئا على مستوى الإنتاج الفكري ولكنه افضى إلى منازعات سياسية أضعفت مركز الخلافة، وأفسحت المجال لقيام دويلات عائلية "أسرية" في مختلف المناطق لعبت أدوارا متفاوتة في تآكل هيبة الخليفة.

لم يقتصر الضعف على المشرق العربي بل شمل مختلف المناطق وامتد إلى المغرب العربي والأندلس. فهناك أيضا انهار المركز ونهضت دويلات عرفت تاريخيا بدول "ملوك الطوائف". واستمرت دويلات الطوائف تتنازع وتتنافس في وقت كان الفرنجة يعززون مواقعهم ويتقدمون ويسقطون المدن الأندلسية الزاهرة والعامرة.

وتصادف صعود دولة السلاجقة في بغداد التي اعادت بعض الهيبة لدور الخلافة العباسية مع صعود دولة المرابطين في المغرب. فهناك تأسست دولة قوية في سنة 442هـ "1052م" وقامت ببناء مدينة مراكش في 444هـ "1054م" واتخذتها عاصمة للمرابطين. وسيكون لهذه الدولة الفتية شأنها الكبير لاحقا في توحيد المغرب والأندلس، والقضاء على دول "ملوك الطوائف"، والتصدي بنجاح لغزوات الفرنجة في الغرب الإسلامي.

مقابل هذا النمو السياسي لدولة المرابطين في المغرب ستشهد منطقة المشرق صراعات قوية على النفوذ بين بغداد والقاهرة للسيطرة على حواضر بلاد الشام ومدنها. فالدولة الفاطمية حاولت الاستيلاء على بغداد وانتزاعها من السلاجقة وفشلت المحاولات كلها التي جرت آخرها في سنة 451هـ "1062م". وبسبب فشل الفاطميين في احتواء الخلافة العباسية بعد سقوط اسرة بني بويه توجهت الدولة نحو البحث عن أمكنة أخرى تعويضا عن ذاك الفشل. فنجح الفاطميون في السيطرة على اليمن وضمه إلى مصر في سنة 453هـ "1064م". وبعد اليمن اتجه الفاطميون إلى الحجاز وضموه إلى دولتهم في سنة 455هـ "1065م" وهي السنة التي ستظهر فيها قوة دولة السلاجقة بظهور سلطة الرجل القوي وصاحب الشوكة ألب أرسلان.

بعد ألب أرسلان ستدخل المنطقة عصرا جديدا تقود علاقاته نزعة عسكرية تعتمد على عصبية دينية متشددة قياسا بالعهود العباسية السابقة. ودوافع التصلب العقائدي لن تكون أسبابه عوامل داخلية فقط وانما جاء ردا على تعرض الديار الإسلامية لهجمات هددت نفوذ الخلافة في جهات مختلفة.

هذا التحول السياسي في نمط العلاقات الداخلية واعتماد التنظيمات العسكرية في بناء دفاعات الدولة سيولد فضاءات عقائدية ستؤسس لنوع من الانقلاب الثقافي على تلك التيارات الايديولوجية التي هيمنت على الساحة الإسلامية لفترة امتدت على أكثر من قرنين. الا ان الانقلاب لن يلغي إيجابيات تلك الفترة وانما سيعيد النظر بها وتفكيكها من دون الإطاحة بها، وسيقود هذه المرحلة الغنية في سجالاتها ونقاشاتها ونشاطاتها في تأصيل المعرفة الإسلامية الإمام الغزالي "أبوحامد".

الإمام الغزالي "450 - 505هـ/ 1058 - 1113م" يشكل نقطة مضيئة في تاريخ تطور الفلسفة الإسلامية. فهو وعلى عكس ما يقال عنه لم يدمر الفلسفة الإسلامية وانما أعاد تركيبها من جديد على أسس عقائدية مستقلة عن تلك المدارس الايديولوجية التي اعتمدت الترجمات عن اليونان وفارس والهند لترتيب أفكارها. فالغزالي ابن عصره وبيئته الثقافية وهو نتاج تاريخي مركب من مزيج متنوع من الحالات السياسية والعقائدية التي عصفت بديار الإسلام على امتداد 400 سنة. وفكر الغزالي الذي أسهم في بناء الاستقلال الفلسفي الإسلامي عن المنظومات اليونانية والفارسية والهندية لم يكن نتاج فترة محدودة بل هو عصارة قرون من البحث والتنقيب والتدقيق والغربلة انتهت إلى رجل عرف كيف يتعامل معها، ويبني على قواعدها الصلبة مدرسته الفلسفية المتشعبة الفروع. فالغزالي هو ابن تاريخ تجمعت روافده مصادفة، وشكلت في عصر هذا الإمام الشافعي - الاشعري حاجة عند المسلمين ولدت تلك الضرورة الثقافية/ النفسية، فتصدى لها واستجاب وأجاب على أسئلة عصره. فهو في النهاية ابن زمنه، ونتاج تراكم معارف إسلامية ممتدة ومنتشرة وكان لابد من إعادة تجميعها والبناء عليها والرد على تجاوزاتها ثم تطويرها.

لم يؤسس الغزالي مدرسته على فراغ بل هو اعاد بناء قواعدها المتينة على أرض صلبة استقت معارفها من قوة تاريخ الإسلام ودور علماء المسلمين الذين سبقوه في صوغ مقالاتهم في مختلف الفروع والحقول العلمية والأدبية والفلسفية والفقهية والطبية والهندسية. فالديار الإسلامية لحظة ولادة الغزالي في العام 450هـ "1058م" كانت قطعت شوطا كبيرا في تاريخها وتطورها ومعارفها، وأنتجت سلسلة لم تنقطع من العلماء والأئمة والقضاة. ولذلك لم تكن المهمة صعبة أمامه على رغم تلك العذابات والأهوال التي عايشها وتعرض لها خلال فترة عمره القصير نسبيا "عاش 55 سنة فقط" ولكنها كانت كافية ليعيد إنتاج منهجية معرفية مهدت الطريق لتأسيس فلسفة إسلامية في سياق مستقل عن تلك الفترات السابقة.

لم يبدأ الغزالي من الصفر بل نجح في ابتكار وسيلة اسعفته في الغرف من تراكم معارف إسلامية أسهمت الأجيال في انتاجها على مدار أربعة قرون. فقبله مثلا كان هناك الكندي "توفي في 252هـ/ 866م" الذي اعتبر في وقته أول فيلسوف مسلم، وقبله كان الجاحظ "توفي سنة 255هـ"، والفيلسوف ثابت بن قرة "توفي في بغداد سنة 288هـ"، وعالم الفلك عبدالله البناني "توفي في 318هـ"، والرازي الطبيب ابي بكر "توفي سنة 320هـ"، والإمام أبوالحسن الاشعري "توفي سنة 324هـ"، والفارابي "توفي 339هـ". وفي العام 373هـ "983م" ظهرت رسائل اخوان الصفا، وفي العام 389هـ "998م" توفي عالم الرياضيات والهندسة البوزجاني، وفي العام 428هـ "1037م" توفي الطبيب الفيلسوف ابن سينا، وفي العام 431هـ "1039م" توفي واضع نظريات علم الضوئيات ابن الهيثم التي لاتزال نظرياته حديثة تستخدم إلى أيامنا، وفي العام 442هـ "1054م" توفي أشهر علماء الأندلس ومن أعظم مفكريها ابن حزم صاحب كتاب "الفصل في الملل والأهواء والنحل"، وفي العام 449هـ "1058م" توفي في المعرة الشاعر الفيلسوف أبوالعلاء المعري.

فلسفة الغزالي ونقده للفلاسفة ومقاصدهم وغيرها من إسهامات فكرية وفقهية وصوفية جاءت في سياق تراكم معرفي غطى كل العلوم ومختلف الحقول من رياضيات وهندسة وفلك وطب وتاريخ وفقه إضافة إلى مدارس تناولت مختلف الشئون والشجون. فالمعتزلة سبقت الغزالي وأسست له، واخوان الصفا اسهموا في نقل الكثير من المعارف وتطويرها، والحركات الصوفية أنتجت تيارات متعارضة ومتناقضة. كذلك شهدت المنطقة حركات سياسية وفوضوية وانقسامية وإلحادية "ابن الراوندي مثلا" ومذهبية. كذلك شهدت الديار الإسلامية انتفاضات وثورات من الزنج إلى القرامطة وانتهاء بالدعوة الفاطمية التي نمت في المغرب وامتدت إلى مصر وانتشرت مذاهبها المتضاربة في بلاد الشام واليمن.

كل هؤلاء على تناقضاتهم أسهموا في توليد تحديات، وأسرعوا على المقلب الآخر في الدفع إلى قيام مدارس فقهية فلسفية "أصولية وسلفية" مضادة قادها الأئمة والعلماء والقضاة طورت أسس التفكير الإسلامي سواء للرد على تلك الهجمات أو للرد على حاجات المجتمع واستجابة لنمو علاقات اتسعت افقيا بسبب الفتوحات والاحتكاك مع الآخرين. فالفكر الإسلامي في النهاية تطور من خلال عمليات التحدي وبالرد على الاستفزازات التي تعرضت لأصول التوحيد ومقاصد العقيدة. والغزالي هو أحد الأئمة المجتهدين الذي وضعته المصادفة في موقع المسئولية فاستجاب للتحديات والاستفزازات، واسهم في تشكيل وعي مضاد كان له تأثيره العميق في انضاج منهج فلسفة الفقه ونقله من خط الدفاع إلى منطقة الهجوم.

هذا الوعي المفارق كان نتاج مرحلة زمنية وتاريخ مديد من التطور المعرفي/ الثقافي في مختلف حقول العلم والفلسفة والفقه تجمعت كلها في بغداد في فترة شهدت خلالها عاصمة الخلافة مرحلة انتقالية من عصر دولة بني بويه إلى عصر دولة السلاجقة وصعود رجلها القوي ألب أرسلان. وفي هذه الفترة الانتقالية ولد الغزالي وهو الإمام الذي سيكون له شأنه ودوره في عصر متوتر ومشدود إلى دياره وحدوده التي أخذت تتعرض لبدايات هجمات الفرنجة على سواحل الشام ومدنه وصولا إلى سقوط القدس في العام 492هـ "1099م"... أي قبل 13 سنة من وفاة الإمام الغزالي

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 987 - الخميس 19 مايو 2005م الموافق 10 ربيع الثاني 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً