حذر السيدمحمد حسين فضل الله، من أن تتحول العصبية في دمارها النفسي بديلا عن الدين وأن تصبح المؤسسات الدينية مواقع للتعقيدات السلبية في العلاقات الخاصة والعامة. وشدد على أهمية أن يستفيد اللبنانيون من تنوعاتهم لتأكيد إرادة الحرية في قراراتهم بالانفتاح الاقليمي والدولي من موقع حمايتهم لوطنهم من الاستغلال الخارجي.
وأكد أن المشكلة في لبنان انطلقت من فقدان برنامج التخطيط للبلد في إنسانه وقضاياه، لأن الكثير من أموره وضعت على قياس الأشخاص النافذين أو الطوائف النافذة.
سئل في ندوته الأسبوعية عن موقف الإسلام من التنوع معطوفا على التنوع اللبناني؛ فأجاب: التنوع في الحياة البشرية هو صورة عن التنوع الكبير في الكون، والذي أراده الله أن يكون عنصر نماء وحيوية يسهم في وصول الإنسان إلى الغايات السامية، وإلى تحقيق الأهداف الكبرى التي رسمها الخالق للخلق من خلال هذا التفاعل بين العناصر البشرية المختلفة الذي يمثل امتدادا للتفاعل الكوني الواسع بين المكونات والعناصر المتعددة، والتي ان انطلقت من حال التعدد والتنوع، فهي تشير إلى الوحدة المنشودة في مسيرتها التفاعلية عبر الأزمنة والأجيال. وإذا كانت الضدية هي ميزة سلبية بحسب ما ينظر إليها البعض من كونها تمثل عنصر الاختلاف والتباعد، فإنها قد تمثل قيمة إيجابية كبرى من خلال الدور الذي قد تلعبه على صعيد تصحيح المسار بكل ما تحمله من عناصر التميز والنقد والاعتراض، لا على أساس أن "الضد يظهر حسنه الضد" فحسب، بل من خلال تقديمها المادة النقدية الحياة التي تدفع الآخر المختلف إلى سلوك طريق الصواب بعد اطلاعه على الجانب الآخر من الصورة ورؤيته للمساحة الممتلئة من الكأس...
وأضاف: ومن هنا وجدنا أن الإسلام حرص على النظرة بواقعية إلى التنوع مع كل ما يصدر عنه من اختلاف، لأن في مقدور البشر أن يحولوا هذا الاختلاف إلى ائتلاف إذا توافرت النية الصافية في توخي الوصول إلى الهدف الأسمى والمستقبل المنشود، وقد أشار القرآن الكريم إلى الإيجابية الكبرى في التنوع الإنساني التي تساهم مساهمة كبيرا في التفاعلية الحضارية التي لا غنى للبشر عنها: "وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" "الحجرات: 13"، وليمثل عنصر التعارف هذا الأساس المتين لتطور العنصر الإنساني ونموه من خلال اختزانه لمقومات الجذب التي تتمثل في الآخر، والتي هي إبداع إلهي اقتضته حكمته في الخلق وميشئته في الحياة.
وقال أيضا، وعلى هذا الأساس فإن الإسلام أراد للمنتمين إليه ألا يشعروا بعقدة ذاتية إزاء الآخر المختلف في اللون أو في اللغة وحتى في طرائق التفكير وأساليب العيش، لأن من آيات الله في الخلق "اختلاف ألسنتهم وألوانهم"، ولأن هذا الاختلاف قد يرسم لوحة عالمية للإنسان يمكن أن تقود للسلم العام بدلا من أن تقود للحروب والاصطراع كما قد يرى البعض. كما أن الإسلام حرص على أن يضع قواعد أساسية للتفاضل الإنساني ابتعدت عن الانتماء النسبي أو التواصل العرقي ولم تأخذ اعتبارا للمكانية والجغرافية وما إلى ذلك من العناوين، إذ إن تكريم الإنسان بكله هو القاعدة "ولقد كرامنا بني آدم"، وإذ إنه "لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى"... بكل ما يعني ذلك من احترام لهذه الأخوة الإنسانية التي تتقدم عليها أخوة أخرى هي الأخوة الإيمانية، ولكنها لا تنطلق من عنصرية أو من عشائرية في النظرة إلى الآخر، بل من احترام أكبر للقيم الرسالية السامية التي تحملها أو تنتمي إليها الأخوة الإيمانية.
وأضاف، وإذا كانت الخصوصية الإنسانية لا تقود بالضرورة إلى الاحتراب والاصطراع، فإن الخصوصيات الانتمائية على الصعيد الفكري أو السياسي ينبغي أن تقود إلى عملية تحاور وتفاهم بدلا من أن تقود إلى أن يشهر كل واحد سيف الاختلاف في وجه الآخر... وكذلك فإن التنوع على المستوى الإسلامي من شأنه أن يكون حافزا مهما في عملية الإبداع الفكري والفقهي إذا تم تحريكه في إطار علمي بحت أو إذا نجح الذين يتحملون المسئولية السياسية أو العلمية أو الفقهية في التأسيس لمنهجية موضوعية في الحوار الذي ينطلق من أسس عقلانية متينة تفرض نفسها على القاعدة في اجتذابها إلى روحية التعايش مع الاختلاف، ولا تعمل لاستثارة غرائزها لتوحي لها بأن التنوع يعني الاقتتال والاحتراب. وفي العالم الآن الكثير من التنوعات الدينية كاليهودية والبوذية والمسيحية والإسلام والهندوسية والزرادشتية المتنوعة في ثقافتها ومضمونها الروحي وإيحاءاتها ما قد يغني الإنسان في مواقع اللقاء التي توحي بالتعارف والتواصل وفي مواقع الخلاف التي تقود إلى الحوار المنفتح على رحلة التعاون في البحث عن الحقيقة وفي التكامل الإنساني.
وأردف قائلا: وربما عاشت هذه الأديان، بفعل التراكمات التاريخية والحساسيات النفسية والتعقيدات الذاتية أو الفئوية، بعض الخلفيات العصبية من خلال النظرة السلبية للفواصل الفكرية بين الأديان، ما أدى إلى أن ينكفئ كل منها في داخلها، ويحاول أن يرسم الحدود الفاصلة، الأمر الذي أدى إلى التباعد وربما إلى التقاتل بفعل ذهنية التكفير التي يستحل بها البعض تدمير البعض الآخر. وقد تفاقمت هذه المشكلة الإنسانية الدينية إلى حد امتداد التعصب إلى الدوائر الصغيرة في المذهب الواحد ليتحول المذهب إلى دين لا يختلف في نظرة اتباعه إلى المذهب الآخر عن نظرتهم إلى الدين الآخر، ليصل إلى مستوى التكفير، وهذا ما نجده في المسيحية وفي الإسلام في آن... وهكذا باتت العصبية في دمارها النفسي بديلا من الدين، وأصبحت المؤسسات الدينية مواقع للتعقيدات السلبية على مستوى العلاقات العامة والخاصة.
وخلص إلى القول: وفي العالم العربي الكثير من هذه التنوعات الممتدة من الدين إلى العرق إلى الجغرافيا إلى السياسة التي لا تزال تؤدي إلى أكثر من انقسام شعبي، وخصوصا في لبنان المميز بتنوعاته الدينية والثقافية والسياسية الذي لم يستطع أن يتحول إلى بلد واحد لمواطنيه، بحيث يعيش اللبناني روحية المواطنة التي تنفتح على الشعب كله، بل إنه ابتعد عن روحية الدين أو المذهب الذي يؤمن به، باعتبار تحول هذا وذاك إلى طائفية تهرب من المضمون الفكري والروحي المرتكز على القيمة إلى الإحصاءات العددية الذاتية التي ترتبط بالأشخاص والمواقع، بحيث كانت الأديان عشائرية لا روحية كما يعبر البعض وهذا هو الذي أوجد الكثير من المشكلات السياسية التي أفسحت في المجال للتقاتل في أكثر من حرب، فلم تعد المسألة مسألة هذا الاتجاه الديني أو ذاك، بل أصبحت مسألة هذا التيار السياسي المتحرك في دائرة الطوائف أو الأشخاص من رموز الطائفة. ولعله من المؤلم أن هذه الثغر الطائفية في عناوين رموز الطوائف الدينية والسياسية، أفسحت في المجال لنفوذ القوى الدولية والإقليمية لتحويل لبنان إلى ساحة لكل مشكلات المنطقة في ساحة المصالح الدولية وإلى موقع تصدر فيه الحساسيات الطائفية والمذهبية إلى المنطقة، وربما كانت في وقت مضى جسرا لنقل المشكلات إلى بلد هنا أو هناك، بفعل التدخلات الدولية والتحركات الإقليمية حتى تحول اللبناني إلى حال من حالات الاهتزاز السياسي الذي لا يستقر على أساس.
وختم: إننا نقول للابنانيين بفعل التطورات السياسية والدولية الزاحفة إلى ساحتهم، لقد كان بإمكانهم أن يستفيدوا من تنوعاتهم لتأكيد ارادة الحرية في قراراتهم بالانفتاح الإقليمي والدولي من موقع حمايتهم لوطنهم من الاستغلال الخارجي بالوسائل التي تجعل الآخرين يحترمونهم ولا يستغلونهم، وأن يدرسوا جيدا كيف يجلسون على طاولة واحدة ليضعوا البرنامج للبنان المستقبل، لأن المشكلة في هذا البلد فقدانه للبرنامج الذي يخطط للبلد إنسانه وقضاياه، باعتبار أن الكثير من أموره وضعت على قياس الأشخاص النافذين أو الطوائف النافذة، وهذا هو ما يتداوله الجميع في فقدان قانون انتخابي حضاري... إننا نقول لهم: هل تريدون وطنا واحدا يعيش فيه المواطنون متساوين في الحقوق والواجبات، إنكم تتحدثون عن الوحدة الوطنية ولكن ما عناصرها الواقعية ووسائلها المتوازنة، وعن المصالحة الوطنية، ولكن ما هي الوسائل لتحقيقها... هل هي على مستوى الأشخاص أو على مستوى قضايا الوطن؟ هل أنتم مع لبنان الوحدوي الإنساني، أم مع لبنان الطائفي القبلي الذي يسير في ظل ذهنية التخلف الحضاري إلى السقوط المريع
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 987 - الخميس 19 مايو 2005م الموافق 10 ربيع الثاني 1426هـ