تستعد دول الاتحاد الأوروبي إلى التصويت على دستور موحد للقارة. وتعتبر هذه الخطوة هي الأهم في تاريخ الاتحاد. فالدستور في النهاية يعيد تشكيل شخصية الجماعات الأهلية ويرتب علاقاتها الداخلية في دائرة سياسية تتجاوز حدود القوميات.
دول الاتحاد مختلفة على الدستور. وهناك مخاوف من أن تصوت بعض الدول ضده. وفي حال فشلت أوروبا في الاتفاق على صيغة تضبط إيقاع تطور علاقات الاتحاد وتنظم مصالح دوله فإن هناك انتكاسة تنتظر القارة قد تؤخر عملية اندماجها لمواجهة استحقاقات تتصل بالتنافس الدولي مع الولايات المتحدة.
أوروبا الآن تعتبر متحدة في جوانب معينة إلا أن الجوانب الأهم في صيغة الاتحاد لم تكتمل وخصوصا تلك النقاط الحساسة المتعلقة بالدستور وما يتفرع عنه من قوانين تتجاوز حدود الدولة القومية. فالدستور في النهاية هو الشكل الأرقى للتعبير عن الوحدة وفي حال غيابه يصبح الحديث عن الاتحاد الأوروبي مجرد لقاء مصالح ينظم العلاقات في دوائر اقتصادية وأمنية ودفاعية من دون أن يربط تلك الدوائر بحلقات قانونية ترتقي بالدول إلى مستوى قاري.
حتى الآن توجد عقبات كثيرة أمام الاتحاد الأوروبي على رغم نجاحه في توسيع قاعدة دوله في القارة وضم شعوب ولغات وثقافات متنوعة. فالتوسع الأفقي الذي طرأ على المجموعة الأوروبية كان أسرع من ذاك الذي طرأ على الانتظام العمودي وما يتطلبه من ترابط دقيق بين الدول. فهناك بعض أعضاء الاتحاد رفض توقيع اتفاقات معينة. وهناك من رفض التخلي عن عملته الخاصة "القومية". وهناك من يستعجل الخطوات في جوانب ويتردد في اتخاذ خطوات متوازية في جوانب أخرى.
عقبات كثيرة تواجه الاتحاد وهي في مجموعها تتصل بتردد بعض الدول في التخلي عن قوانينها ومصالحها "القومية" والاندماج في صيغة قارية ما فوق قومية.
إلى الجانب المصلحي هناك جوانب تتعلق بالثقافة واللغة ونظام التربية والتعليم وهي في مجموع روافدها تصب في إطار حماية الشخصية القومية من الذوبان في تواريخ أخرى يصعب تجاوزها قبل مرور أكثر من جيل أو جيلين.
مسألة الحماية نقطة مهمة في حياة الشعوب. والحماية لا تقتصر على خفض الضريبة الجمركية أو فتح الأسواق على بعضها أو دمج القوانين المتعلقة بالتأمينات والتقاعد والضمانات وحرية التنقل بين المطارات.
هذا النوع من الحمايات الاقتصادية "تصدير المال والبضاعة والقوى العاملة" أسهل من تلك المتعلقة بالشخصية الثقافية "لغة، عادات وتقاليد ونظام تربية" والهوية القومية وما يتصل بها من تاريخ مشحون بالحروب والكراهية والاعتزاز بالذات أو التفاخر بالتفوق على المحيط.
هذا الجانب الروحي "النفسي" المتعلق بنظام الحمايات "والامتيازات" أصعب من ذاك الجانب المادي "المصلحي" المتعلق بنظام المنافع وتبادل البضائع وخصوصا في قارة اعتادت دولها على التنافس والتشاوف في تحقيق الإنجازات والاكتشافات والاختراعات وقيادة دول القارة نحو نموذجها الخاص.
مسألة "النموذج" مهمة. فالقارة نماذج. وكل دولة تتفاخر على الأخرى بأن نموذجها هو الأفضل والأحسن والأكثر تفوقا. النموذج الفرنسي مثلا "الدستور والنظام" يختلف عن البريطاني. والبريطاني يختلف عن الألماني. والألماني لا يتفق مع الإسباني. والإسباني لا ينسجم مع اليوناني... أو الإيطالي. فكل دولة لها تاريخ عريق من الثورات التي أنتجت تنظيمات أسهمت في بناء منظومة علاقات رتبت شخصية ثقافية تاريخية "قومية" يصعب كسرها بسهولة وتجاوزها نحو الاندماج في هوية قارية "ما فوق قومية" غير واضحة الملامح ولم تتفق حتى الآن على صيغة دستورية تضمن نمو تلك الجماعات الأوروبية "المتنوعة والمختلفة" في إطار موحد ومن دون اضطرابات أو انفعالات تؤسس لكراهية تفجر الاتحاد في المستقبل.
أوروبا تقليديا مرت في عصور تاريخية متقلبة قبل دخولها في مرحلة الدولة القومية. فهي شهدت الصيغة الامبراطورية "اليونان، الرومان، والجرمان"، ثم أخضعت تلك الصيغة إلى سلطة الكنيسة البابوية التي نجحت في إدارة الممالك حتى انفجرت الحروب الدينية فانهارت تلك الإطارات القارية لمصلحة الدولة القومية.
الآن بدأت أوروبا رحلة العودة إلى من حيث انطلقت. فهل تنجح في بلورة صيغة اتحادية تحاكي تلك الامبراطوريات القديمة، أم تبقى متوقفة عند الحدود التي وصلت إليها؟
الجواب المبدئي يتصل بمدى التصويت على الدستور المشترك... لكن الدستور الموحد للقارة لا يعني بالضرورة أن أوروبا تاريخيا أصبحت واحدة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 986 - الأربعاء 18 مايو 2005م الموافق 09 ربيع الثاني 1426هـ