العدد 986 - الأربعاء 18 مايو 2005م الموافق 09 ربيع الثاني 1426هـ

انكش سرنا

قصة قصيرة - حسن الصحاف 

تحديث: 12 مايو 2017

في اللحظة التي تطأ فيها حوافره أرض الزريبة تجتمع حوله الحمير من كل فصيل وسن: الجحوش الصغيرة، الحمير الكبيرة، الإناث والذكور، السمين والنحيف والمتعب وذلك المشبع ظهره وعجزته ضربا وتلك الحمير التي تتناثر على جسدها الجروح والقروح لعدم الاعتناء بها طبيا، لا حواجز ولا محرمات؛ منذ تلك اللحظة اليومية يفيض في أرجاء الزريبة المرح والفرح وتصبح الأجواء وكأنها عيد. كان هو الحمار الأكبر عمرا والأرجح عقلا بلا منازع، وهو الأكثر أبناء وأحفادا. لم يكن فاره الطول، أو قصير القوائم. لم يكن سمينا أو نحيفا، كان بكل بساطة مربوعا أبرز ما فيه وتميزه عن أقرانه أذناه. كان أبيض اللون جدا لا يخالط جسده لون آخر. كانت كلماته مسموعة أو لأكن أكثر صدقا نهيقه مسموعا ومميزا وهو مطاع بين الحمير والآتان والجحوش جميعا. لم يكن هناك أي حمار من الحمير أو جحش من الجحوش يرد له طلبا أو أمرا.

كان هو الكل في الكل. لم يكن يمر يوم من أيام السنة التي يدخل فيها الزريبة بعد عناء يوم طويل مرير دون أن يدخل السعادة والفرح إلى قلوب الصغار والكبار من الحمير؛ كان يأتيهم بمختلف أنواع القصص المفرحة والفريدة في نوعها التي يسمعها من الحمير في الخارج ومن ما يصادفه هو شخصيا من أمور مضحكة محزنة في آن واحد.

في يوم من الأيام وقد تكالبت الغيوم على السماء وصبغتها بصبغة رمادية سوداء معتمة، دخل الزريبة وعلى غير عادته مهموما مغموما، تضيق به الدنيا على سعتها، لا يحدث هذا الجحش أو يكلم ذاك الحمار أو ينطق بحرف لتلك الأتان؛ دخل الزريبة وعلى غير عادته انزوى في زاوية من زواياها دون أن يحدث مخلوقا، حتى العصفور الذي اعتاد ينقر على رقبته وأن يغفوا على ظهره. تساءل الجميع بين بعضهم بعضا عن سر همه وصمته الذي ظهر على غير عادة أو سبب. تساءلوا فيما بينهم إذا ما كانوا هم السبب، أو أن يكون قد صدر منهم شيء أصابه بالهم والسقم. لم يتمكنوا من معرفة سبب حزنه ووجومه.عندما حل المساء وحل الظلام، ولم تظهر النجوم في قلب السماء ازدادوا حيرة وازدادوا حزنا؛ لم يستطيعوا النوم كعادتهم في ذلك الوقت المتأخر، ومكثت عيونهم تحدق في الفضاء الدامس تارة، وفي كبيرهم المهموم تارة أخرى محاولين أن يصلوا إلى أعماقه علهم يجدوا فيه سبب حزنه وألمه. أقترب الوقت من منتصف الليل وهم وهو على الحال نفسه. كان بين الجحوش جحش يكن له كبير الحمير بعض الحب الذي قد يظهر للبعض أنه أكبر بعض الشيء عن حبه لهم جميعا؛ وكان هذا الجحش أيضا محبوبا بين الحمير والجحوش جميعها لما له من سوابق يقال عنها بينهم إنها مميزة ويعرف هذا الجحش بينهم بالشقي، وشقاوته محببة بينهم، وتجلب لهم بعض المرح والفرح. في تلك الساعة من الليل دنا بعض الحمير من الجحش الصغير وأسرو في أذنيه أن حاول بطريقتك المعهودة معرفة سبب هم وغم المطاع الكبير، وبعد أخذ ورد مع الجحش الصغير وإذا بعينيه تلمعان وتبرقان وتظهر على محياه ابتسامة عريضة، وارتعش حينها جسده رعشة قوية حس بها جميع من حوله. وافق على محاولة كشف المستور من دون تردد. دنا الجحش الصغير من الحمار الكبير وكان في تلك اللحظة حدق بعين براقة في السماء، وقلبه يخفق بسرعة غير معهودة؛ إلا أن الجحش الصغير لم ينبس ببنت شفة، للحمار الكبير بل بقي في مكانه لبعض من الوقت لا يحرك ساكنا باذلا جل ما في وسعه أن لا يصدر منه أي صوت يفسد على الحمار الكبير هدوءه. وبعد مضي بعض من الوقت انتبه الحمار الكبير إلى وجود الجحش الصغير بقرب جسده المرتمي أرضا دون مبالاة. حدق فيه بنظرة فاحصة خجولة مليا، وكان الجحش الصغير ينظر إليه أيضا بنظرة فاحصة لاتحمل في رحمها سوى البراءة والتساؤل. مد الحمار الكبير رجله وهو الخبير بما يحتويه عقل الصغير إلى ناحية الجحش الصغير ورفسه رفسة خفيفة بحافره مداعبا إياه ومؤشرا عليه أن يدنوا منه. دنا الجحش الصغير من الحمار الكبير ومسح مقدمة وجهه صفحة خد الحمار الكبير اليمنى، ثم لعقه الحمار الكبير لعقة قوية وطويلة بلسانه، ومكثوا على هذه الحال، هذا يمسح وجه ذاك، وهذا يلعق وجه هذا. تشجع من ثم الجحش الصغير وأخبر الحمار الكبير أن الجميع لم ينم حتى هذه الساعة على غير عادتهم مهمومون لهمه، حزينون لحزنه، مشتاقون أشد الشوق إلى معرفة ما يحزنه لكي يساهموا إن أمكن في إسعاده وتبديد الحزن ودحره. تمتم الحمار الكبير ببعض المفردات التي لم يفقه منها الجحش الصغير شيئا سوى شبه العبارة هذه: "انكشف سرنا" ورددها بصوت خافت: "انكشف سرنا". وحال سماع الحمير صوت الحمار الكبير تحركت مسرعة صوبه كلها آذان صاغية لكل كلمة يتفوه بها وإذا به يعيد قول شبه الجملة من جديد ثلاث مرات على هذا النحو: "انكشف سرنا، انكشف سرنا، انكشف سرنا" وبقي صامتا لفترة طويلة وهطلت دمعتان من عينيه على صفحتي خده، ثم فجأة، وبعد أن لحظ الجميع محاطين به، قال: "لابد أنكم في شوق كبير في هذه الساعة المتأخرة من الليل لمعرفة ما يؤرقني ويحزنني" حرك جميع الحمير رؤوسهم إلى أعلى وإلى أسفل، ورفعوا أذنابهم إلى الفضاء، وحركوها بقوة في حركة دائرية، ثم نهقوا نهيقا خافتا للدلالة على الموافقة.

بدأ الحمار الكبير قصة أرقه وحزنه ومفسرا شبه العبارة: "انكشف سرنا" على هذا النحو قائلا: "بينما كنت أسير بجوار البحر وبجانبي كما هي العادة جمع من البشر بينهم الكبير والصغير، الذكر والأنثى، السمين والنحيف، الكريم والبخيل، النظيف والقذر، المهذب والسخيف، أتبصر في أشكالهم وفي سلوكهم، أضحك من هذا وأحزن على هذا؛ وإذا بصبي صغير لطيف مهذب هندامه جميل ورائحته عطرة، يشير علي من بعيد سائلا والده: "ما هذا؟" فأجابه أبوه: "حمار" ثم دنى الصبي مني قليلا وقال: "هذا" مشيرا إلي للتأكيد ومضيفا: "هذا، يا أبي، هذا". وأجابه أبوه من جديد "حمار، يا ابني حمار"؛ دنى الصبي مني ووضع يده على خدي الأيمن ومسح علي مسحة مشحونة بالحب والعطف والحنان وصاح في والده سائلا: "ما هذا؟" أجابه والده "هذا حمار يا ولدي حمار" نظر الصبي إلى والده نظرة غريبة لم أستطع معرفة فحواها. وبعد مضي فترة قصيرة مسح الطفل على مقدمة رأسي وهو يبصر والده ومستفسرا من جديد "ما هذا؟" رد والده على السؤال بالإجابة نفسها "هذا حمار يا ولدي حمار" . دنا الولد الصغير مني أكثر ومسح على رقبتي الرطبة من شدة رطوبة الجو وجهد العمل ثم حرك أنامله اسفل عنقي وأعاد طرح سؤاله على والده من جديد وهو يضغط على وجهي بأصبعه قائلا "بابا، بابا، هذا؟" صاح الرجل في ابنه بلغة فيها شيء من الغضب: "إنه حمار" وصمت. تركني الصبي وجرى مسرعا وهو يصرخ: "لا، لا ، لا" ثم جرى والده من خلفه وتبعتهما محاولا أن أعرف لماذا يقول الصبي "لا" وإذا بي أسمع الصبي يقول إلى والده "بابا، بابا، هذا ليس حمارا" ثم بكى محاولا استدراج والده للقبول بهذه الحقيقة وأنا أتمنى في أعماقي أن لا يوافق والده على قبول ما يصر عليه الصغير. اختفى الاثنان بين الجموع ولم أعلم بعد من منهما أقنع الآخر بحقيقتنا. يا أعزائي الحمير من كبير وصغير لقد كشف سرنا الصبي الصغير، ولهذا السبب أنا مهموم جدا وأحاول جاهدا أن أجد طريقة فعالة لتبقينا على حالنا "حمير"، "حمير وبس". نصيحتي الأخيرة لكم هذا المساء هي أن تزيدوا في إظهار حموريتكم من الآن فصاعدا وإلا فالمستقبل من أمامكم حالك الظلم والظلمة





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً