بصرف النظر عن تصريحات التهدئة والتورية السائدة، دخلت العلاقات المصرية الأميركية واحدة من أصعب أزماتها هذه الأيام، في ظل تصعيد هجومي متزايد من جانب واشنطن، بدأ بانتقادات مبطنة للسياسة المصرية، ومر بهجمات شرسة ليست خافية.
وفي ظل هذا المناخ الصيفي الساخن الملتهب، يلتقي الرئيس الأميركي بوش اليوم في البيت الأبيض، برئيس وزراء مصر أحمد نظيف، ليخوضا معا اختبارا قاسيا وصعبا، أسئلته صعبة فعلا، وأجوبته أكثر صعوبة، والكل في انتظار النتائج على أحر من الجمر!
وفي كل حال فإن الكثيرين يتطلعون إلى هذا الاختبار القاسي، لمعرفة إمكانات التطور القريب والبعيد في هذه العلاقات الثنائية، التي ربطت بالتحالف والصداقة، بين الدولة العظمى الوحيدة في العالم، وبين الدولة الأكبر والأهم في الشرق الأوسط، من دون أن تعكس تطابقا دائما ومستمرا في المواقف والآراء، ومن دون أن تصل إلى درجة القطيعة.
والمؤكد أن مصاعب بل أزمات كثيرة عرضت هذه العلاقات لتوترات معروفة على مدى العقدين الأخيرين خصوصا، لكنها أبدا لم تصل إلى درجة الاحتقان الساخن كما هو الحال الآن.
وحين نجري استعراضا سريعا لهذه التوترات السابقة، التي اختلفت فيها العاصمتان الأميركية والمصرية، نستطيع أن نحصرها في مجالين محددين، أولهما كان عن السياسات الخارجية الأميركية تجاه الشرق الأوسط، وخصوصا في دعمها اللامحدود وانحيازها السافر لـ "إسرائيل" حتى في شراسة عدوانها، الأمر الذي انتقدته القاهرة كثيرا واختلفت فيه، مثلما انتقدت واختلفت أيضا مع الغزو والاحتلال الأميركي للعراق، ومع الاندفاع السياسي والإعلامي الأميركي في شن حملات العداء والكراهية والتحريض ضد الإسلام والمسلمين بشكل مطلق، واتهامهم عموما بالإرهاب، فيما بعد هجمات سبتمبر/ أيلول 2001 على نيويورك وواشنطن.
أما مجال الاختلاف والتوتر الثاني، فكان مقصورا على مفهوم وإجراءات الإصلاح الاقتصادي في مصر، إذ كانت واشنطن ومعها المنظمات المالية الدولية - البنك وصندوق النقد الدوليان - تطلب الإسراع في الخصخصة وإطلاق حرية السوق وريع دعم الفقراء وزيادة أسعار الخدمات وبيع المصارف، بينما كانت القاهرة ترى التمهل والتريث، وتنفيذ برنامجها على فترات طويلة وبجرعات قليلة، حتى لا تنفجر الأزمة الاقتصادية الاجتماعية، وينفجر الشارع!
لكن المرحلة الأخيرة في العلاقات المصرية الأميركية شهدت نقلة في الصدام أكثر خطورة من مجرد الاختلاف، حين دخلت واشنطن بضغوطها المتصاعدة وتصريحاتها العلنية، على خط الإصلاح السياسي في مصر، وطالبت بالتعجيل باتخاذ خطوات أكثر راديكالية وجذرية في تغيير بنية النظام الحاكم، انطلاقا من مقولة الرئيس بوش في العام الماضي، "إن مصر التي قادت الشرق الأوسط نحو السلام، عليها الآن أن تقوده نحو الديمقراطية".
وفي حين أراد النظام السياسي المصري معالجة أمر الإصلاح السياسي بطريقته المعروفة، بالجرعات التدريجية وعلى فترات طويلة، كما فعل في شأن الإصلاح الاقتصادي من قبل، انقضت الإدارة الأميركية بكل ثقلها على الأمر، مطالبة بالإصلاح العاجل والجذري الذي يبدأ بقمة النظام.
وحين اعتبر كثيرون في الدوائر الحاكمة في مصر، أن خطوة تعديل المادة "76" من الدستور لإجراء انتخابات رئيس الدولة انتخابا حرا مباشرا بين أكثر من مترشحين، جرعة كبيرة وخطوة مهمة للإصلاح تكفي الآن لاحتواء الضغوط الخارجية "الأميركية"، ولتهدئة واستيعاب الضغوط الشعبية الداخلية التي نشطت بقوة حديثا... فإن واشنطن لم تقتنع بهذه الخطوة، التي رحبت بها من حيث المبدأ، لكنها أولا انتقدت الشروط والقيود التي وضعت على تفعيل هذه المادة من جانب مجلس الشعب، تعجيزا لمرشحين آخرين عن خوض سباق الرئاسة، وطالبت ثانيا بمزيد من السياسات التي تحقق إصلاحا أوسع وأسرع، وصولا إلى دخول الرئيس بوش شخصيا على خط تصعيد الضغط العلني، بتصريحاته الأخيرة في زيارته الأسبوع الماضي لدول البلطيق، والتي طالب فيها "بإجراء سباق حقيقي وحملة انتخابية حرة للرئاسة في مصر، تحت رقابة دولية"، الأمر الذي أكده وكرره المتحدثون باسم البيت الأبيض بعد ذلك، استباقا لمهمة نظيف في واشنطن، والتي جاءت بديلا للزيارة الموسمية للرئيس مبارك في كل عام تقريبا.
غير أننا نعتقد أن واشنطن خطت خطوة أخرى، في مجال التصعيد باسم الإصلاح الديمقراطي في مصر، حين أعطت إشارات صريحة بوجود بدائل عدة للحكم، وخصوصا "التيار السياسي الإسلامي المعتدل"، كما قالت وزيرة الخارجية الأميركية كوندليزا رايس قبل أيام، وهو ما أقلق الحكومة المصرية بالغ القلق، وشجع في الوقت نفسه أهم قوى هذا التيار السياسي الإسلامي "الإخوان المسلمون" على التحرك النشط، وصولا إلى النزول إلى الشارع بمظاهرات تحدي واختبار قوة لفتت الأنظار بقوة.
وفي حين ظلت القاهرة ومعظم العواصم العربية، تؤجل الإصلاح السياسي والديمقراطي الحقيقي والجذري، بحجة أنه قد يفتح الباب أمام التيارات السياسية الإسلامية، وخصوصا الإخوان للوصول إلى الحكم، فإن واشنطن ومعها عواصم أوروبية عدة، اقتنعت حديثا بأنها لا تمانع في تبني وتشجيع "حركات الإسلام المعتدل" على النموذج التركي الناجح من وجهة نظرها في الاندماج في الحضارة الغربية بكل قيمها الديمقراطية، فإن كان قد نجح في تركيا فلماذا لا ينجح في مصر...
وفي إطار أوسع ضمن نشاطات مشروع الشرق الأوسط الكبير، أعادت أميركا وأوروبا، تجديد اتصالاتها وفتح حواراتها بعد توقف، مع كثير من الحركات والتنظيمات الإسلامية السياسية، التي تصفها بالاعتدال، في مصر والمغرب والأردن والجزائر، واليمن والكويت والبحرين والعراق وسورية ولبنان، والمبرر هو تشجيع الإسلام المعتدل، للتغلب به على الإسلام الجهادي المتطرف من ناحية، ولتهيئة البديل المقبول للنظم القائمة المتهمة بالاستبداد والفساد، من ناحية أخرى.
هكذا شعرت القاهرة وغيرها من العواصم العربية، أن الخطر الداهم قد اقترب من الرؤوس، وأن الضغوط الأميركية خصوصا، لم تعد قاصرة أو راضية بالعلاج المسكن والمؤقت، أو بالإصلاح المتدرج، لكنها قفزت - أي الضغوط - مباشرة إلى العلاج بالجراحة وبالتغيير الجذري من القمة، وهو أمر لم يعد محصورا في إطار اختلاف وجهات النظر بين الأصدقاء والحلفاء التقليديين، كما كان الحال في السابق، إنما هو صدام حاد وتكسير عظام، إن تداعى وتطور وتدهور!
وتدل المؤشرات الظاهرة أن واشنطن مصرة على المضي قدما وبتعجل في طريق التصعيد، وفرض نموذجها الإصلاحي، وتهيئة بدائلها المناسبة، ولذلك لم تكن غريبة، حملة الانتقاد والهجوم الواسع على مصر هذه الأيام، في إدارة بوش ومن وزرائه، وفي الكونغرس، وفي الإعلام، بما في ذلك عرقلة مفاوضات منطقة التجارة الحرة "حتى تلبي مصر الشروط" والتهديد بوقف أو إنقاص المساعدات السنوية، والاحتجاج على ما يسمونه الاضطهاد الديني الواسع للأقباط ولبعض الجماعات الإسلامية وغير الإسلامية، ووضع مصر على قائمة "المراقبة" وهي الأخف من القائمة السوداء في التقرير السنوي للحريات الدينية الصادر يوم الخميس الماضي، والإدانة العلنية للتعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان، ضمن تقارير الخارجية الأميركية والمنظمات الأهلية الأخرى، مثل تقرير بيت الحرية، وتقرير "هيومان رايتس دوتش"... إلخ.
ومقابل هذا التصعيد الأميركي، فإننا نعتقد أن بعض السياسات المصرية الداخلية، تساعد السيناريو الأميركي على النفاذ بسرعة، إذ إن ما جرى حديثا من جانب البرلمان والحزب الوطني الحاكم، بوضع "ضوابط صعبة وشروط تعجيزية" للترشيح لمنصب رئيس الجمهورية، في إطار تعديل المادة 76 من الدستور، قد أفرغ المادة من الهدف الرئيسي المبتغى، ما أعطى انطباعا للداخل والخارج بأن الالتفاف والتهرب من الإصلاح الحقيقي هو الهدف المبتغى دون سواه!
وبالمثل فإن التضييق الشديد والإجراءات الأمنية الحادة، المتبعة مع المجتمع المدني، ومع المتظاهرين والمحتجين بصرف النظر عن انتماءاتهم، يدفع بالاحتقان السياسي الداخلي إلى أن يصب في مصلحة السيناريو الأميركي، بينما نعتقد أن هذا الحراك الوطني في الشارع المصري الملتهب سخونة وحيوية هذه الأيام، إنما هو يصب في مصلحة السيناريو الوطني للإصلاح الديمقراطي الحقيقي، ومن ثم يتناقض بالضرورة مع الإصلاح المفروض من الخارج، لو أحسنا استثماره حقا.
ولذلك فإن كانت القاهرة تبذل الآن جهودا ضخمة لترميم علاقاتها بواشنطن، وتخفيف احتقان الأزمة المحتكمة هذه الأيام، والخروج منها سالمة، فإنها مطالبة أكثر ببذل أضخم وأخطر الجهود، لفك الاحتقان الداخلي، وإعادة ترميم العلاقات المتوترة داخل المجتمع المصري، بدرجة لم تحدث طوال العقود الأخيرة.
ذلك هو طريق السلامة، وطريق الإصلاح، وطريق التقدم، وهو أيضا رصيد الحركة الوطنية، التي إن كانت ترفض التدخل الأجنبي، فهي ترفض معه الاستبداد واحتكار السلطة والحكمة.
خير الكلام:
يقول الكواكبي: الحق أبوالبشر والحرية أمهم
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 985 - الثلثاء 17 مايو 2005م الموافق 08 ربيع الثاني 1426هـ