يفضل البعض أن يموت وهو غارق في الحلم، خيرا من أن يذكره أحدهم في الحياة بأن الأمور التي يعتقد بها، كانت تلك في أحسن الأحوال رؤى ليس لها علاقة بالواقع. تلك هي الفكرة الأكثر عمقا التي خرجت بها من الندوة الثقافية الكبيرة التي عقدتها صحيفة "الخليج" في الشارقة، في ذكرى مؤسسها المرحوم الصديق تريم عمران، وكانت تحت عنوان: "العولمة والهوية".
أن نقول ان بعض النخب العربية تكره الاستماع للرؤى الأخرى، فتلك حقيقة لا نضيف إليها شيئا، ويعرف أهل الكتابة منا كم هي قاسية بعض الأفكار على بعضنا، ولكن أن يعلن هذا الكره في ندوة يؤمها عدد من المثقفين أصحاب العقول، فذلك أمر يتحول من الظن إلى اليقين، وهي أن معظمنا لايزال بعيدا عن قبول أو حتى الاستماع للرؤى الأخرى المختلفة مع توجهاته.
قال لي صديق من كبار من عمل في الشأن الثقافي العربي، وهو بحق قد قدم جهدا حياتيا في الفكر لا سبيل إلى نكرانه، بعد أن قدمت تعليقا في الندوة على ما رأيته اجتهادا في عالمنا السياسي العربي، قال: "إنني احتفظ بكل ما تكتب، بل إن لدي ملفا لكل ما كتبت، وأنا عندما أقرأ لك أصاب بالتسمم"! نفض علي ذلك التعليق من دون مقدمات، كما نفض تعليقات أخرى على زملاء كان نصيبهم من التوبيخ بسبب ما يفكرون به مثل نصيبي.
أسمي مثل هذا النوع من الناس بكلمة "الأعدقاء"، أي أنهم أصدقاء على المستوى الشخصي، وأعداء للحقيقة في الوقت نفسه. ولو كان الصديق الكبير ذاك لديه وسيلة قابلة للاستخدام، لإسكات الصوت الآخر، ربما استخدمها من دون أن ترف له عين، في حين أن كاتب هذه السطور يحب المسالمة والقول بالحسنى. انه شكل معمق لنبذ الرأي الآخر.
طبعا أنا اعتبر أن ما اكتبه فيه الكثير من الصدق، وربما الاجتهاد الذي يمكن أن يخالف فيه أو يختلف حوله، فتلك من طبيعة الأمور، أما أن يصاب أحدهم بالتسمم فتلك ظاهرة تحتاج إلى بحث أعمق من المرور بها مر الكرام.
في ندوة صحيفة "الخليج" الأسبوع الماضي التي دعا إليها الصديق عبدالله عمران تحمل على رغم السائد، الكثير من الأفكار الجديدة، وكانت تلك الأفكار ملتصقة بجيل جديد، عدد منه من أبناء الخليج، إلى درجة أن أحد المتدخلين من الجيل الفكري السابق قال عن نفسه انه "أحد الديناصورات"، وليس بالضرورة أن ينصرف الذهن إلى أن الديناصورات هي مخلوقات من زمن قديم فقط، فبعضهم فكرا لا يزال يتمسك بالتصورات القديمة إلى درجة انه يعتبر نفسه "صوتا من الماضي" على رغم انه يعيش معنا. انها مقاومة الجديد والبكاء على الأطلال.
ترى على ماذا كان الاختلاف الحاد؟ انه أولا على نقد التجربة السياسية العربية في المشرق العربي، والتي يرى بعضنا، وكاتب هذه السطور منهم، أنها لم تقدم لنا إلا الدم والاضطهاد والدموع، والكثير من تفويت الفرص وهدر الطاقات البشرية والمادية.
مثالها طبعا حكم أحزاب البعث وأحزاب اليسار العربي، وأحزاب الصحوة. ففي كل من العراق واليمن الجنوبي السابق والسودان على التوالي تولت هذه الأحزاب دفة الحكم، فقدمت أفكارا مثل "تحرير فلسطين من النهر إلى البحر"، و"حرب الامبريالية الأميركية والغربية"، وضرورة انصهار كل المواطنين في بوتقة واحدة، فلا حقوق للسوداني الجنوبي، لأنه يجب أن ينصهر مع السوداني الشمالي وينسجم على شاكلته، ولا حقوق للكردي العراقي لأنه يجب أن ينسجم على شاكلة العراقي العشائرية، أو أي تشكل يرتضيه النظام القائم، ولا حقوق للمواطن في أي بلد مهما كانت الفروق النسبية بين المواطنين، من حيث العرق أو المذهب أو الاجتهاد السياسي. جميعهم عليهم الخضوع إلى ما يأمر به الحزب الذي يتحول إلى شلة ثم عصابة ثم أسرة حاكمة، ويفرط في هذه الصيرورة المتحولة، وتحت شعارات براقة وكبيرة، بالحد الأدنى من الحقوق التي يتطلبها المواطن في القرن الواحد والعشرين.
ذلك الاختلاف يواجه بعدد من الذرائع، أهمها أن الفكر في الممارسات العربية المذكورة وغيرها، قد طبق بطريقة خاطئة، وهو قول لا يدخل عقل الفطن، وان ردد كثيرا، وقال بعض المنتديين وأتوني بنص من ثقة دعاة القومية العربية يدعون فيها إلى العنصرية أو الاضطهاد، وأن كل من مارس السياسة مارسها خارج الفكر، وفي هذا القول "استعباط" كبير للمتابع ومكابرة حري بها أن تعود إلى الواقع الذي عاشته وتضررت منه أجيال عربية مازال بعضها يروي قصة العذاب، وبعضها الآخر طمرت عظامه في القبور الجماعية. أما متدخل آخر يريد أن يغطي بطريقة لا شعورية على المذابح، قال إن أول من استخدم الغازات السامة في العراق هو الاحتلال البريطاني في ما بعد الحرب العالمية الأولى، وان كانت هذه حقيقة متداولة، فلا يعني استخدامها من الانجليز يبيح تلقائيا تبريرها من النظام الذي يدعي انه وطني! فتلك نقرة وهذه أخرى!
الخلاف الجوهري الآخر، هو على فكرة أن التغيير يجب أن يبدأ من الوطن كي ينتقل إلى القوم، هذه مقولة عقلانية، فالوطن الذي لا يجد المواطن فيه المساواة والعدالة والشفافية، ولا يستطيع أن يساهم في شئونه العامة عن طريق مؤسسات لها قواعد حديثة، لا يستطيع هذا الوطن أن يبني، حتى وان أراد، منظومة قومية فاعلة.
وأهل الفكر القومي يهربون من مواجهة الاستحقاقات المحلية العاجلة بالحديث عن القوم "العرب" وأهمية اتحادهم وضرورة ربطهم جميعا بحبل واحد. في يقين الكثيرين أن مثل هذه الدعوات هي أولا تهرب من الاستحقاق المحلي العاجل، وثانيا ربط الحصان خلف العجلة، فلا العجلة دارت ولا الحصان تحرك.
فضيلة الحوار العقلاني المستنير لا توجد بين النخبة العربية، ومازال كثير منهم من يفقد رؤية أهمية الاختلاف الخلاق الذي بسببه تقدمت شعوب أخرى، وإذا كانت مفقودة بين النخبة، فكيف هي بين من مسته السلطة، إذ الدروب معتمة ولا يوجد ضوء فيها غير ضوء المصلحة.
مع ذلك لم تكن ندوة الشارقة عبثا، بل أكدت لي ما كان مؤكدا، وهو أن جيلا آخر، يفكر بعقله لا بقلبه قد برز، وأصبح له مكان في الساحة الثقافية. جيل يرى أن إصلاح الجزء هو مقدمة ضرورية لإصلاح الكل، ويرى أن البشر حقيقة متساوون، فصوت البشر حتى لو كان هامسا هو أقوى من أزيز الرصاص وضجيج الشعارات
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 984 - الإثنين 16 مايو 2005م الموافق 07 ربيع الثاني 1426هـ