الليبرالية يمكن أن تفهم كتقليد سياسي، أو كفلسفة سياسية، أو كنظرية فلسفية عامة. هذا غربيا، أما عربيا فهي نسق واحد للمهزومين، وللبقايا الباقية من شخوص ترهلات الهزائم العربية المحمودة. الليبرالية قد تقع في عدة أشكال باختلاف البيئة المنتجة للمفهوم فلسفيا أو سياسيا، بمعنى أن الليبرالية الإنجليزية لا تتشابه والفرنسية في شيء، سوى الاسم رسما، أما المضامين السياسية فتختلف وتتعدد بتعدد الوجه البارز للفهم في حدود وتخوم الليبرالية، وهذا غربيا. أما عربيا فهي شكل وحيد بين المراهن العته السياسي والمعرفي، فتتلخص العملية الليبرالية في خطاب شعارات فارغة الشكل قبل المضمون.
في إنجلترا، مسقط رأس الليبرالية، تركز التقليد الليبرالي في السياسة على الخصوصية الدينية، هي حكومة تنتجها الموافقة والتعاقد، أما في علمانية فرنسا فقد كانت أكثر تعلقا بالعلمانية بطابعها الديمقراطي، أما الأميركيون فهم يجمعون في غالبية الأحيان على الولاء المطلق لمفاهيم الحرية الشخصية، أما عربيا، فهي مزيج من التناقضات بين كل ليبرالي وآخر، فهي تحررية ديمقراطية في الشام، وهي صورة مشوهة من البلاهة في الخليج، إلا من رحم ربي.
ويسألونك عنها
يذهب Cranston إلى تعريف الليبرالي بمعنى "تحرري، أي الرجل الذي يؤمن بالحرية"، وهما نوعان، ليبراليون نموذجيون يذهبون إلى أن البشر طبيعتهم الحرية، "لوك"، وتنتهي بهم مطافات هذا الخيار الى التنبؤ بمفهوم العقد الاجتماعي لدى "هوبز وروسو"، والليبراليون النموذجيون يزعمون أن التقييدات المبررة في الحرية بسيطة جدا، والمهمة الأساسية للدولة هي حماية حرية المواطنين، وهكذا تعتمد الليبرالية النموذجية على مبدأ Rawls الأولي للعدالة "كل شخص لابد أن يمتلك حقا مساويا من الحرية بالنسبة إلى النظام الكلي الأكثر شمولا من الحريات المتساوية الأساسية".
أما الليبرالية غير النموذجية - منها الليبرالية العربية - فهي ليبرالية خلط للمفاهيم، فهي ليبرالية سياسية مشوهة، لا ليبرالية فلسفة وبناء معرفي متكامل، وليست نظرية سياسية عامة، وطبعا هي ليست تقليدا سياسيا. الليبراليون في التجربة العربية عبارة عن قراءة قلقة للتاريخ ممزوجة بهاجس السلطة والسيطرة، ودائما ما تنتهي بنتائج عكسية ومضادة لكل ما هو ليبرالي نموذجي، ذلك أن الصورة السياسية هي نتاج حال من اللاتوازن السياسي والثقافي، وليست نتاج تراكم تجارب أو معرفة.
الليبراليون يختلفون على مفهوم الحرية، وكنتيجة مهمة، الليبرالي التحرري قد يختلف مع الليبرالي التحرري الآخر في تحديد مفاهيم الحرية الفردية والجماعية للمجتمع، إلا أن الليبرالية سياسيا لابد ان تنتهي بالسقف الأعلى "المجتمع" الى كونه مركبا من الحريات الفردية المجتمعة. عربيا، الليبرالية مختلفة، ففي الوقت الذي يدافع فيه بعض الليبراليون عن حرية الفرد، فإنهم يقمعون ويشجبون ويستنكرون تعبير المجتمع ككل عن رغباته وحرياته الشخصية في صورة الحرية المجتمعية، ذلك أن هؤلاء الليبراليين تحديدا، أبناء طيبون للسلطة السياسية التقليدية، وحرية المجتمع "الاكتمال الطبيعي لخيار الحرية الشخصية" هي عصيان لولاءاتهم التاريخية، ولمصالحهم، بمعنى أنهم في حقيقتهم نموذج سياسي مفبرك وملفق ليبراليا.
بدائل لمزيد من الحرية "القهر"
بعض العلماء النظريين الجمهوريين، مثل كوينتن Skinner، وموريتسيو Viroli، وفيليب بيتيت، يذهب مفهومهم السياسي إلى تأسيس نوع جديد من الحرية كبديل لليبرالية. طالما أن مثل هذه المنظومة الجديدة وهي ما يسمى اليوم بـ "الحرية الجمهورية" ترى كقاعدة لانتقاد حرية السوق ومجتمع السوق "Gaus، 2003". هذا البديل أنتج عربيا بالنسق ذاته، لكنه عوض أن يقوم على الالتزام بحرية الإنسان العربي، فإنه أعطى ضمانة الحرية المستدامة للدكتاتوريات والسلطات السياسية العربية.
النظرية السياسية الليبرالية غالبا ما تقوم بكسر مفهوم الحرية، حين تنتهي الليبرالية الى الإلصاق المتعمد بالملكية الخاصة وأمر التصرف. ومنذ القرن الثامن عشر وحتى اليوم يصر الليبراليون الكلاسيكيون على تعريف الليبرالية بأنها نظام اقتصادي يستند على حرية الملكية الخاصة، متسقة مع الحرية الفردية. وهي عربيا تذهب في السياق ذاته بحجج التنمية ومحاربة الرجعية والإسلام الإرهابي الأصولي.
كما يستخدم الليبراليون حجة ثانية، وتصر هذه الحجة الثانية على أن الملكية الخاصة هي الوسيلة الفعالة الوحيدة لحماية الحرية، ويذهب كإف. أي. Hayek بقوله "لا يمكن أن تكون هناك حرية للصحافة إذا كانت آلات الطباعة تحت الرقابة الحكومية، ولا حرية في المواصلات، إذا كانت وسائل النقل احتكارا حكوميا". وهي ذاتها عربيا "لما يفقه هؤلاء معنى الحرية والتنمية، حتى نعتمد على خياراتهم الشخصية".
الليبرالية الجديدة
غربيا، الليبراليون الجدد كانوا تجمع الفاقدين للثقة في السوق وأداة الاقتصاد، وإيمانهم في الحكومة كوسيلة إشراف على حياة اقتصادية رائدة يزداد يوما بعد يوم، فلنقل انها نتاج متأخر لتأثر الأميركيين بنظرية المسئولية الاجتماعية.
الحجج التي وجهت إلى الليبر الجديدة تذهب الى أن الحكومات كليا أو بشكل رئيسي تقع في أيدي طبقة حاكمة، تمارسه برعونة وأبوية وسلطة متعالية جشعة، ومثل هذه الحجج تفقد الليبراليين الجدد قوتهم نسبيا، بينما يتضح يوما بعد يوم أنهم على الأقل في النموذج الأميركي قادرون على صياغة حكومة الناس، من قبل الناس بأنفسهم، لذلك تبقى خيارات الأميركيين "الناس" هي من تصعد بهم الى رأس السلطة، بمعنى انها خيار الناس على رغم عنفها وبجاحتها، إلا أنها عربيا تستقر في زاوية أخرى، فالناس على لا تختار أيا مما يعنيها، فهي مغلوبة على أمرها، سواء قبل أو بعد ظهور الليبرالية الجديدة عربيا. وما الفرق، وما الذي تغير؟
على رغم أن الليبرالية هي فلسفة سياسية، فقد جاء لفظ "ليبرالي جديد" في الإطار الغربي بعيدا عن مجموعة الفلسفات الأخلاق، والقيم، والأفراد. ابتعد الليبراليون الجدد البارزون عن مفهوم الليبرالية كفلسفة شاملة، وأرادوا العودة إلى الليبرالية كعقيدة سياسية. هذا التطوير وصف بشكل ملائم بـ "ليبرالية سياسية"، ليبرالية تحدد إلى مجموعة رئيسية من المبادئ السياسية التي يمكن أن تكون موضوع الإجماع بين كل المواطنين المعقولين، بعيدا كل البعد عن أي مؤثر أخلاقي أو اجتماعي ميتافيزيقي.
ولكنها في إطارها الغربي منتهية من تحديد التراكم التاريخي لمفهوم العقيدة السياسية لليبرالية والتحررية. عربيا، ثمة تجاوز غير مبرر لكل ما هو أخلاقي أو قيمي أو اجتماعي أو حتى ميتافيزيقي، هي نموذج من الغريب والمتضاد، في خطاب مهلهل وفي الغالب هو خطاب "مدفوع الأجر"
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 984 - الإثنين 16 مايو 2005م الموافق 07 ربيع الثاني 1426هـ