الهواجس التي أفصح عنها بيان مجلس مطارنة الموارنة عن شرعية تمثيل المسيحيين في المناطق المسلمة في المجلس النيابي لا تقتصر على الطائفة المارونية. فالهواجس كما تبدو الأمور من داخل كل طائفة ومذهب موجودة عند كل اللبنانيين. والمنطق الذي ذهب إليه المطارنة في بيانهم يمكن القياس عليه في مختلف المناطق من دون تمييز بين طائفة وأخرى.
الهواجس يمكن أن نجد ما يحاكيها في مختلف المذاهب والأقليات المسيحية التي تعاني من هيمنة أو غالبية عددية للموارنة. فهناك هواجس أرثوذكسية، وكاثوليكية، وإنجيلية، وأرمنية، وسريانية وغيرها من مجموعات تجد نفسها مأسورة بالقوة العددية للموارنة في المحافظات أو الأقضية التي تتمتع بغالبية مسيحية.
كذلك يمكن أن نجد ما يحاكي تلك الهواجس في المناطق ذات الغالبية الإسلامية. فهناك محافظات "الجنوب والبقاع" يسيطر عليها الصوت الشيعي وهو يقرر التمثيل السياسي "البرلماني" للمجموعات الأخرى من مسيحية ودرزية وسنية. وهناك محافظات "بيروت وطرابلس" يسيطر عليها الصوت السني وهو يقرر التمثيل النيابي للمجموعات الأخرى من مسيحية ودرزية وشيعية. وهناك أقضية "الشوف عالية وبعبدا" يسيطر عليها الصوت الدرزي وهو يقرر اختيارا وترشيحا أسماء المجموعات الأخرى من مسيحية وسنية وشيعية.
المسألة إذا متشابكة وبالتالي فإن هواجس الموارنة ممتدة إلى مختلف بقاع لبنان ومحافظاته وأقضيته ويصعب أن نجد طائفة من لون واحد في منطقة واحدة إلا وهناك إلى جانبها أو وسطها طائفة أخرى من مذهب آخر أو دين مختلف. فمعظم محافظات لبنان مختلطة، وهناك أقضية قليلة تتمتع بالانسجام الطائفي أو المذهبي "كسروان مثلا".
إذا هواجس الموارنة صحيحة ولكن طرحها سياسيا وبمناسبة الانتخابات لا معنى لها إلا إذا كان المقصود إثارة حساسيات والقفز فوق الواقع باتجاه إعادة فرزه لينسجم مع مشروع فيدرالية الطوائف. والمشروع مستبعد. وهو مصيبة إذا كان هناك من يفكر به، لأنه سيشعل اضطرابات دموية لا تنتهي إلا بتفكيك الكيان إلى كانتونات "وحدات" طائفية ومن ثم تقسيم الكانتونات إلى وحدات مذهبية صغرى... إلى آخر الجزئيات التي تتكون منها الدولة.
المسألة إذا تحتاج إلى تفكير سياسي متشابك يقرأ تعقيدات الواقع بروحية عقلانية "تسووية" تتجاوز منطق بيان مجلس المطارنة. والقراءة تتطلب نظرة موضوعية وغير استعلائية ترى البلاد كوحدة لا فرق فيها بين لبناني وآخر. أي أن القراءة يجب أن تنطلق من مفهوم "المواطن"، وكيف يمكن تحويل المفهوم من نظرية إلى ممارسة تعيد إنتاج علاقات مصالح تتخطى تلك التقسيمات وتتجاوز أطر الهويات المحكومة بحلقات ضيقة في التفكير السياسي.
قد تكون هواجس الموارنة صحيحة في منطلقاتها إلا أنها خاطئة في استنتاجاتها وحلولها. فالمشكلة موجودة في كل المناطق والمذاهب والطوائف، ولكن حلها لا يكون بكسر المشترك بين اللبنانيين وإعادة فرز العلاقات في ضوء تفكيك المحافظات إلى أقضية، والأقضية إلى دوائر، وأخيرا تقسيم الدوائر إلى شرائح حتى يستقيم التمثيل بين المترشح والمقعد. هذا الحل يفجر الوضع مهما كان نوع قانون الانتخابات سواء على قاعدة نظام العام 2000 أو نظام العام 1960 أو على مستوى المحافظة أو القضاء أو أية دائرة كبيرة كانت أم صغيرة.
الحل لا يبدأ بالفرز بل بالجمع. والجمع لا علاقة له بمساحة الدائرة الانتخابية "محافظة، نصف محافظة، قضاء، أو دائرة صغرى أقل من قضاء"، بل بإعادة النظر في نظام الطوائف والبدء في تأسيس آليات سياسية تنتج لبنانيين في إطار الهوية الوطنية لا "الكوتا". وهذا الحل صعب إلا أنه يبقى أسهل من نظريات الفرز التي تطيح بالكيان وتدمره إلى وحدات لا تحصى وحروب غير متناهية ليس بين المسلمين والمسيحيين فقط وإنما أيضا بين المسلمين والمسلمين والمسيحيين والمسيحيين.
الكل متضرر، ومختلف الأطراف تملك الهواجس التي أفصح عنها مجلس المطارنة في بيانه الأخير. إلا أن الحلول لا تكون بالفرز بين الألوان بل بخلطها في ضوء وحدة تعيد الاعتبار إلى المواطن في إطار آليات المصالح المشتركة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 984 - الإثنين 16 مايو 2005م الموافق 07 ربيع الثاني 1426هـ