يحكي التاريخ عن أن الأوروبيين تعلموا عادة التدخين من الهنود الحمر في أميركا الشمالية، ويقال إن الملك جيمس الأول المعروف عنه كرهه للتدخين حين اشتط به الغضب من هذه العادة الكريهة جمع علية القوم في العام 1604م، وخاطب البرلمان قائلا: "والآن أيها الناس الطيبون دعونا نعتبر: ما هو داعي الشرف الذي يدعونا إلى تقليد أولئك الهنود الحقراء المتوحشين الذين لا يعبدون إلها في عاداتهم القذرة، تلك العادة المؤذية للعين، المزعجة للأنف، المضرة للمخ، الخطرة على الرئة، وكأن ذلك الدخان المرعب برائحته السيئة ينبع من حفرة لا قعر لها".
كانت هذه المخاطبة في العام ،1604 وفي العام الذي تلاه، "1605" رفع الملك جيمس الأول الضرائب على التبغ 40 مرة للتقليل من انتشاره، غير أن ذلك أدى إلى زيادة تهريبه.
ويروي التاريخ أيضا، أنه في 21 يناير/ كانون الثاني ،1542 مرر البرلمان الانجليزي قانون التجريم ضد الملكة كاترين هوارد، وهي الزوجة الخامسة للملك هنري الثامن، وقد أدينت بالزنا، ووضعت تحت الإقامة الجبرية في قصر هامبتون كورت الملكي قبل أن يتم إعدامها "بأمر من زوجها هنري الثاني" في برج لندن.
ويقال إنه في الوقت الحاضر، وفي قصر هامبتون كورت الملكي يعتقد أن شبح الملكة كاترين هوارد يصول ويجول في القصر، وهناك مطاردات مثيرة لشبح الملكة، إذ يقوم فريق مزود بآلات تصوير وأجهزة لقياس الحرارة بمراقبة القصر الذي سجنت فيه كاترين قبل اقتيادها إلى برج لندن، حيث نفذ حكم الإعدام، وقد قامت بمحاولات مستميتة للهرب من القصر قبل إعدامها. وكان هنري الثاني الذي تزوج ست مرات، قد أعدم قبل كاترين زوجته الثالثة آن بولين.
حكايتان تاريخيتان وقصص غريبة قد لا يصدقها العقل، لكنها مدونة في بطون كتب التاريخ: واحدة عن مكافحة التدخين، وأخرى عن الخيانة الزوجية، وكلتاهما مرا عبر البرلمان "بر... الأمان" تطلبا مباركته ورضاءه، على رغم قسوة عبارات جيمس الأول وعنصريتها ضد الهنود الحمر، أو إعدام كاترين وشبحها الذي يصول ويجول "الآن" في قصر هامبتون كورت الملكي! تخيلوا معي وهمومنا مازالت تحوم حول الذات، تارة باسم "القوانين"، وتارة أخرى باسم القبيلة أو الطائفة، أو ما يسمى بـ "المصلحة الوطنية العليا" وجملها المطاطية، بينما ذروة طاقتنا الفكرية وابتكاراتنا النفسية تهدر في دائرة: "أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب"، معلنة قول الشاعر:
كل من في الوجود يطلب صيدا... غير أن الشباك مختلفات
تعالوا نتفكر في الأمور من جديد، "ما دمنا كلنا ديمقراطيين وحقوقيين وإنسانيين؛ وإن لم ننتم لأي مدرسة من هذه المدارس الثلاث! ولا تتعجبوا، فلدينا برلمان لا يشرع ولا يراقب كبقية مهمات برلمانات العالم كما لدينا محكمة دستورية أصدرت حكما "لا يلزم عرض المراسيم بالقوانين الصادرة من الجهات العليا على المجلس الوطني"، ونملك مادة سحرية في مجلسي النواب والشورى "يشاع" أن رقمها "45" تقول لنا ولكم: "سرقة المال العام حلال" ما قبل الفصل التشريعي الأول، وما بعده يمكن "تقاسم المال العام" ضمن معادلة "عادلة ولله الحمد"! يقول فيها المفسدون: ما لنا... لنا، وما لكم بعد الفصل التشريعي الأول لنا ولكم! وفي بلدنا الحبيب، ممارسة المسئولين عن انتهاكات حقوق الإنسان مصانة، والمرسوم بقانون رقم 56 قد ساوى الضحية بالجلاد وطوى صفحة الماضي الأسود بكل بساطة وإتقان... "هل رأيتم أحلى من ذلك؟!". ولأن قضية حقوق الإنسان، قضية مركزية في بلادنا على رغم "وجود انتهاكات من دون منتهكين!" فقد شكل أحد النواب المعروفين "لجنة وطنية لضحايا الإرهاب" في موازاة اللجنة الوطنية لضحايا وشهداء التعذيب، ولدينا لجنة مراقبة لحقوق الإنسان ومركز لحقوق الإنسان، وجمعية لحقوق الإنسان، وجمعية لحماية الحريات العامة، وجمعيات حقوقية حكومية نصفها "تلميع" ونصفها الآخر من "أولئك الذين يصدقون كذبهم" على الآخرين! وجلهم ذهبوا إلى جنيف، البعض منهم للدفاع عن "شهيد الواجب دريار"، والآخر عن الشهداء السعيدين "الاسكافي - العويناتي" وربما الشهيد نوح آل نوح أو الشهيد محمد غلوم والشهيد هاشم العلوي، أو الشهيد الشيخ علي النجاس وآخرين قد سقطوا تحت أقبية التعذيب الوحشي، أو ربما الدفاع عن الشهداء الذين سقطوا خارج نطاق القضاء، وهم بالمناسبة بالعشرات، أو عن ضحايا التعذيب والمشوهين طيلة العقود الماضية و"الحاسبة تحسب"... وعلى المتضرر أن يلجأ إلى القضاء مع شروط قانون 56 المنصوص عليها في مفهوم "العدالة الانتقالية" التي طبقتها جنوب إفريقيا، وعلى أساسه رفضت ثماني قضايا في وقت سابق مراعاة لـ "الحبيب 56".
الحمد لله والشكر له. لدينا دستور جديد وقوانين عتيقة، وهناك متظاهرون ومعتصمون ومواطنون بالآلاف يرسلون عرائض ضده وضدها، وأيضا هناك مؤيدون بقوة أو بخجل للدستور ولهذه القوانين، وهناك فن في الاختلاف وفن في حبكة المواد المتصلة بالتعديلات عبر قبة البرلمان؛ وهناك تقدم، كما هناك تراجع والموازين تقاس بدقة... فهذه لعبة السياسة؛ وعلى الذين يطالبون بـ "الإصلاح الدستوري... أولا" عليهم "التحلي بالشجاعة" واللجوء إلى "قبة البرلمان" فهناك بانتظارهم "الباب السادس" للأحكام العامة والأحكام الختامية، ليثبتوا شطارتهم مع المادة "120" بفقرتيها "أ" و"ب" التي تقول: "يشترط لتعديل أي حكم من أحكام هذا الدستور أن تتم الموافقة على التعديل بأغلبية ثلثي الأعضاء الذين يتألف منهم كل من مجلس الشورى ومجلس النواب، وأن يصدق الملك على التعديل، وذلك استثناء من حكم المادة "35 بند ب، ج، د" من هذا الدستور".
والفقرة "ب" تقول: "إذا رفض تعديل ما للدستور فلا يجوز عرضه من جديد قبل مضي سنة على هذا الرفض"، أما المادة "35" الاستثناء فتقول: "للملك حق اقتراح تعديل الدستور واقتراح القوانين، ويختص بالتصديق على القوانين وإصدارها"... فما دام لجلالة الملك حق اقتراح تعديل الدستور، وهناك مطالبات قوية وتتنامى بتعديله، فلماذا هذه اللفة الطويلة للجوء إلى البرلمان بغرفتيه لطلب التعديلات ومن داخله يستحيل تعديل أي حكم من أحكامه وتأمين غالبية الثلثين من أعضائه "المعينين والمنتخبين"؟
العدد 983 - الأحد 15 مايو 2005م الموافق 06 ربيع الثاني 1426هـ