التشنجات الطائفية والمذهبية التي افتعلت في لبنان عشية الانتخابات النيابية تكشف عن ضعف فكرة "المواطن" في دولة مشرقية يقال عنها إنها الأكثر تقدما في قوانينها الاقتصادية والأكثر انفتاحا على "الغرب" ونظريات "الحداثة"، وتمتلك أيضا تجربة لا بأس بها في احترام اللعبة الديمقراطية وقواعد التعامل الدستوري مع المؤسسات والحريات.
هذه التشنجات تؤكد من جديد أن فكرة "المواطن" في العالم العربي عموما والمشرق العربي خصوصا لاتزال ضعيفة وفي طور التأسيس. فالهوية القطرية "الكيانية" الحديثة لم تكتمل شروطها التاريخية وهي بالتالي فكرة غير منجزة، وتحتاج إلى وقت طويل لبلورتها في إطار واضح غير مرتبط بانتماءات ضيقة ومحلية.
التشنجات إذا مفتعلة، وفي الآن تعكس روحية الجماعات الأهلية المتعايشة/ المتضاربة في لبنان. وبيان مجلس المطارنة الموارنة الذي خرج على قواعد اللعبة حين استخدم لغة التهديد والوعيد من نوع "أعذر من أنذر" و"عواقب وخيمة" ليست جديدة في لهجة التخاطب بين اللبنانيين. فهذه اللغة معروفة عند جيل "المخضرمين" إذ استخدمت مرارا وتكرارا في محطات زمنية مختلفة ثم خف تداولها في فترة الاختلاف على الوجود السوري في لبنان.
الآن كما يبدو - وبعد أن تراجع الضغط السوري - عادت تلك الكلمات إلى الظهور مستعيدة عافيتها بعد أن ظن الكثير من اللبنانيين أنها انتهت إلى غير رجعة. إلا أن الواقع أقوى من التكاذب وهو في النهاية ينتج ثقافته ويحدد أطر مصالح جماعاته الأهلية ويرسم خطوط التماس بين الطوائف والمذاهب.
ليس المهم في ذاك البيان سياسة الاعتراض على قانون الانتخابات، وكذلك ليس الملفت فيه تلك المخاوف التي تعبر عن شعور بالغبن أو احساس بالضعف "أو بالاستضعاف". فهذا من حق أية جماعة أهلية أو فئة حزبية أو نقابية أن تعبر عنه. الخطير في الموضوع تلك اللغة التي صيغت بها تلك الروحية السياسية والمفردات التي استخدمت للتعبير عن الاعتراض. فاللغة سيئة وسلبياتها تستفز وتستنفر العصبيات، وتطيح بكل تلك التراكمات الإيجابية التي تجمعت في لحظة زمنية معينة. فاللغة هي أخطر من الموضوع لأنها في النهاية تعكس عقلية ترفض القبول بالتسوية، وتملك الاستعداد للعودة بلبنان إلى الخراب مجددا من أجل مقعد نيابي هنا أو هناك.
من حق مجلس المطارنة الموارنة أو غير الموارنة الاعتراض وقول ما يريده في إطار الخلاف السياسي. فالتعبير عن الرأي حق كفله الدستور ومن حق كل جهة أن تعكس مخاوفها في حال لاحظت أن هناك محاولة للانتقاص من شأنها وموقعها ودورها. إلا أن الشرط الوحيد الذي يمكن وضعه على أسلوب الاحتجاج هو اللغة المغلقة على الطائفة، وتلك المفردات والكلمات التي تتجاوز السياسة وتطيح بالوطن وتدفع المواطن سنوات إلى الوراء وصولا إلى السقوط في حلقات ضيقة وهويات محلية تزعزع تلك الفكرة "اللبنانية".
الفكرة اللبنانية جديدة وهي في منطلقاتها الجغرافية والتاريخية المعاصرة تعتبر الأحدث في حال قيست بتواريخ الطوائف والمذاهب. فالطوائف أقدم من لبنان، والمذاهب أقدم من لبنان والطوائف معا. وبسبب الفارق الزمني بين هويات طائفية قديمة مضت عليها مئات السنين ومذاهب لا يقل عمرها عن 0041 سنة على أقل تعديل تبدو الفكرة "اللبنانية" كإطار مشترك للجماعات الأهلية قريبة العهد وتحتاج في نموها وتطورها إلى الكثير من الجهد السياسي والعقلاني للحفاظ عليها ومنع انكسارها أمام هويات موغلة في قدمها الزمني.
مجلس المطارنة اساء في استخدام مفردات لغته، ولجأ إلى الغرف من ثقافة أهلية لا تتناسب كثيرا مع شعارات قيل للجيل الجديد من اللبنانيين إنها تشكل الأساس المتين لبناء دولة حديثة تتجاوز تلك القواعد التي انطلقت منها شرارات الاقتتال لحروب اللبنانيين على أرضهم ولحروب الآخرين على أرض لبنان.
تشنجات اللحظات الأخيرة التي ظهرت فجأة عشية الانتخابات ليست مبررة؛ لأنها في النهاية تضعف الكثير من عناصر "وحدة لبنانية" مفترضة، وتزيد من قوة هويات تملك شرعية تاريخية أقدم من دولة تأسست حديثا في العام 0291
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 982 - السبت 14 مايو 2005م الموافق 05 ربيع الثاني 1426هـ