هل يعود لبنان إلى عاداته القديمة وتبدأ مجموعاته الأهلية بشن حملات متبادلة تعتمد التحريض الطائفي والمذهبي والمناطقي كما كان عليه الأمر قبل الحروب الأهلية الإقليمية التي اندلعت في العام 1975؟ بيان مجلس المطارنة الموارنة يعتبر إشارة أولى إلى هذا المنحى السلبي. فالبيان اتسم بروحية "استعلائية" على المسلمين لأنه اشترط عدم مشاركتهم في التصويت للمترشح المسيحي. وكذلك مال إلى التشكيك في مسيحية المسيحيين وطالب باستبدال كل المترشحين من المسيحيين على لوائح يغلب عليها التمثيل المسلم. البيان بكل بساطة يريد أن يقول الآتي: اللبنانيون على أصناف والصنف الأول هو المسيحي في مقام التمثيل. والمسيحيون أيضا على درجات والمسيحي الذي تختاره الميليشيات هو المخلص لدينه ووطنه.
هذا اللون من التفكير المخيف، الذي يرتكز على نهج الفرز الديني بين المجموعات الأهلية ثم يعود إلى اعتماد الفرز السياسي في الولاءات المسيحية أسهم سابقا في تكتيل مراكز قوى متنافرة فجرت لبنان وأعطت فرصة للقوى الإقليمية والدولية للتدخل بذريعة حل الأزمة.
هذا النوع من التفكير افترضت غالبية اللبنانيين أنه انتهى بعد خراب البلد وإعادة إعماره بصعوبة وكلفة عالية. وهذا النوع من القراءة السياسية للعيش المشترك افترض اللبنانيون أنه أصبح خارج التداول بعد تلك المظاهرات التي شهدتها ساحات بيروت عقب اغتيال رفيق الحريري. إلا أن بيان المطارنة، والتفسيرات التي أعطيت له، وجه صفعة لكل مظاهر تلك الوحدة وأشار مجددا إلى أن تجمع 14 مارس/ آذار ليس سوى كذبة خدعت كل المشاركين فيه.
عودة لبنان في مجموعاته الأهلية إلى فترة "التكاذب المشترك" تعني عمليا إعادة كل طائفة إلى البحث عن هويتها الخاصة خارج الدائرة "اللبنانية". وكذلك عودة كل مذهب إلى صيغة تضمن خصوصيته ضمن طائفته. وأخيرا تشجيع كل منطقة "عشيرة" على بناء مواقع لها تضمن حصتها ضمن المذهب والطائفة... وهكذا إلى الجزء الأخير من النسيج الاجتماعي.
هل يراد فعلا إعادة لبنان إلى تلك الفترة وجعل كل مجموعة فيه تتحدث باسمها نافية الآخر في محاولة للتقليل من أهمية الشريك أو التشكيك فيه بصفته ينتمي إلى درجة أدنى من الولاء؟
لا يعرف حتى الآن المنطق الذي دفع مجلس المطارنة إلى إصدار مثل هذا البيان قبل أيام من الانتخابات. إلا أن المنطق كما يبدو له أسبابه الداخلية والعامة. فمن الداخل يريد تجييش المشاعر وإعادة تثويرها في ضوء الانسحاب السوري من البلاد انطلاقا من التشكيك في مسيحية بعض المسيحيين وفي لبنانية غالبية اللبنانيين. أما الأسباب العامة فهي تشير إلى وجود رهانات على "الخارج" واستقواء بالأجنبي ضد اللبناني الآخر المتمثل في المسلمين وهم يشكلون 65 في المئة من الشعب. أي بكلام آخر يريد البيان أن يفرض شروط الأقلية على الأكثرية والاعتماد على قوى خارجية لإعادة ترسيم حدود المصالح الطائفية استنادا إلى توازنات دولية لا وطنية.
هذا التفكير خطير لأنه يدفع بالبلاد مجددا نحو الاحتراب انطلاقا من هواجس لا معنى لها ولا توجد مبررات محلية لتغطيتها. كذلك يلغي هذا التفكير نظرية "حروب الآخرين على أرض لبنان" فهذه النظرية - وهي غير دقيقة - تقفز فوق الأسباب اللبنانية التي أسهمت سابقا، في إنتاج الاقتتال الأهلي وأعطت لاحقا الذريعة للآخرين بخوض حروبهم على أرض لبنان.
بيان مجلس مطارنة الموارنة جاء في التوقيت الخطأ وأرسل إشارات سيئة عن هوية لبنان الضائعة بين الطوائف والمذاهب والمناطق ومجموعاته الأهلية. كذلك أعطى البيان صورة عن سلبيات لبنانية كثيرة حاول اللبنانيون تغطيتها بسياسة معتدلة وعقلانية، وهذا كما يبدو لا يريد بيان المطارنة البناء عليه وتطويره. فالبيان يدعو اللبنانيين إلى الاستنفار من خلال استفزاز المشاعر وتقويض كل تلك المظاهرات الشعبية التي وحدت الناس تحت شعارات مشتركة.
لغة البيان كانت سيئة وهي أعطت فكرة عن مستقبل لا يضمن الاستقرار لكل اللبنانيين. فهل يكرر مجلس المطارنة تلك اللغة في بيانات لاحقة أم يعتذر عنها أو على الأقل يوضح المعنى المقصود من تلك الإهانات التي طاولت غالبية اللبنانيين وشككت في مسيحية المسيحيين؟ الجواب عند البطريرك الماروني
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 981 - الجمعة 13 مايو 2005م الموافق 04 ربيع الثاني 1426هـ