المؤسف والمضحك المبكي أن ملفا مهما كملف ضحايا التعذيب على رغم أهميته لم يتم التعامل معه بشكل يتناسب مع حجمه، وإن كان هناك من وقفة تكاد تكون خجولة جدا بل انها متواضعة.
الغريب في الأمر أن هناك خمس صحف محلية، أربع منها تصدر بشكل يومي والخامسة بشكل أسبوعي وتتناول في طياتها الكثير من القضايا الا أنها تجاهلت هذا الملف الثقيل "الدسم"، وبالتالي نستشف أن سياسة هذه الصحف لم تضع ضمن أولوياتها ملف ضحايا التعذيب وإعادة تأهيلهم، وتركت هذا الملف معلقا ومركونا على الرف، ليأتي من يتحين الفرص ويستغل هذا السكوت المطبق ويثيره بشكل فئوي شخصي ومن وجهة نظر ضيقة جدا. وهذا ما تفاجأنا به في الآونة الأخيرة، إذ استيقظ أحد النواب بين ليلة وضحاها من نومه العميق يطالب بإعادة حقوق الأبرياء و"ضحايا التعذيب" في التسعينات على حد قوله، مشيرا إلى أن هناك ملفا ساخنا لم يفتح بعد متعلقا بحقوق الإنسان "من قبل أيدي الظلم والإرهاب"، ويطالب فيها السلطات والمجتمع المدني بفتح هذا الملف وإعادة النظر في تفاصيله والآثار المترتبة عليه. فعلى حد قوله ان هناك العشرات من المواطنين والمقيمين تضرروا كثيرا نتيجة حوادث التسعينات، وان البعض راح ضحية أثناء تأدية الواجب الوطني نتيجة قيام البعض بالتخريب وتدمير المنشآت العامة والخاصة مستشهدا بـ "وفاة شهيد الوطن رئيس العرفاء في وزارة الداخلية"، والمقيمين من الجنسيات الشرق آسيوية من هنود وبنغاليين راحوا ضحايا أعمال العنف والأضرار التي حلت بالتجار من جراء التصرفات الغوغائية على حد تعبيره، من قبل "زمرة من المشاغبين والمخربين"، مطالبا بإعادة الحقوق المسلوبة إلى مثل هؤلاء ومحاسبة المسئولين عن مرتكبي تلك الحوادث، وإلى هنا ينتهي كلامه.
إننا نحن أيضا نطالب وبقوة الجهات المعنية بفتح ملف التعذيب وضحايا التعذيب ونطالب بمحاسبة المسئولين عن الخسائر التي أودت بحياة أرواح الكثير من الكوادر الشبابية نتيجة سوء تصرف وزارة الداخلية، ونقول للنائب الفاضل ان من أسميتهم مشاغبين ومخربين وإرهابيين وألصقت بهم الأسماء جزافا، لا يستحقون منك ذلك، كان أحق أن تطلق عليهم أسماء تليق بالدور والمهمة التي قاموا بها، فهم بطبيعة الحال مناضلوا وشهداء الوطن، وهم أبطال انتفاضة التسعينات المباركة، يستحقون الاعتراف بهم وبدورهم الريادي الذي قاموا به. هذا لأنهم هم الأساس المتين لكل ما نعيش أجواءه الآن وما ننعم به من انفراجة أمنية وإصلاحات سياسية وحريات. كلمتهم كانت مدوية قالوها وبكل جرأة وحماس "نريد برلمان"، وغيرها الكثير من الشعارات التي كتبوها تارة على جدران البيوت والمساكن بالقلم وتارة نحتوها في قلوبهم بالدم، سقط من سقط واستشهد من استشهد وتضرر من تضرر، فهم ليسوا بمخربين كما قلت عنهم، فالذي يعبر عن حقوقه لا يستحق منا إلا كل احترام وتقدير، ولا يمكن وصفه بالمخرب، وليعلم هؤلاء أن الخير الذي تعيشون فيه والنعمة التي تتقلبون فيها، مصدرها الحقيقي ما تم التأسيس له من قبل هؤلاء المضحين المناضلين، فهم شموع على الدرب، وبدلا من رد الجميل لمثل هؤلاء نأتي الآن ونضع السكين على الجرح! لا تنس أنك نائب تمثل الشعب، وبالتالي لابد للموضوعات التي تثار أن تتلاءم مع مطالب الشعب ومنبثقة من أولوياته. وكان الأحرى المطالبة بحقوق هؤلاء الذين لا حول لهم ولا قوة، وبإعادة تأهيل ضحايا التعذيب من جراء تجرعهم أصناف العذاب التي لقوها في المعتقلات إبان أمن الدولة. والمطالبة بأن تعيش أسر هؤلاء الشهداء حياة كريمة بعد ما تألموا كثيرا لما وقع عليهم وعاشوا الضيم فهناك نساء ترملن وأطفال تيتموا وأمهات فقدن أبناءهن في عمر الزهور.
إن علينا أن نفكر في تعويض هؤلاء وإن كان التعويض غير مجز، فحياة الناس غالية ولا تقدر بثمن. لا أن تأتوا وتصبوا الزيت على النار، التصرفات الغوغائية التي تتكلمون عنها هي التي أخرجتنا من عنق الزجاجة وهي التي مهدت إلى المشروع الإصلاحي. وإذا كان هناك من ضرر فقد وقع الضرر الأكبر على هؤلاء المناضلين الذين دفعوا الغالي والنفيس إعلاء للوطن وقدموا أرواحهم فداء للوطن، فهل هناك أغلى من الروح يقدمها الإنسان على طبق من ذهب فداء للوطن؟ كل ذلك كان بصفاء نية قربانا لتراب الوطن، وطنيون حتى النخاع ليسوا بحاجة إلى أدلة لنبرهن على ذلك، فلم يكونوا حينها يطمحون في أهداف دنيوية ولا يريدون الوصول إلى مراكز في الدولة، ولا التسلق على أكتاف الآخرين. لا نحاول أن ندس السم في العسل، وبالتالي لا يحق لأحد تسميتهم مخربين أو مشاغبين.
إننا لا يمكن أن نصدر أحكاما هنا وأحكاما هناك، وبالتالي الذين يتمتعون بالوطنية وبحب الوطن ليسوا فقط من شارك في الانتخابات النيابية الماضية، وبالتالي الذي قاطع ليس وطنيا. فهذا خلط للأوراق بشكل فج، ولنتكلم بموضوعية ولنتجرد من الذاتية، فليس معيار الوطنية المشاركة أو المقاطعة، فالوطنية أكبر بكثير من اختزالها في كلمتين. كلنا نحمل هم الوطن ولا نساوم ولا نقبل بالمساومة على وطنيتنا، والذي يتشدق ويطالب بحقوق الأبرياء وضحايا التعذيب لابد له أن يكون موضوعيا في طرحه وليس فئويا، فلا يجوز لكائن من كان، أن يتعامل مع القضايا المهمة بشكل مبتور، فما هكذا تورد الإبل أيها النائب. والمفروض ان تكون نظرتنا أكثر شمولية وموضوعية حتى يستحق منا الدعم والمساندة. فهذا الملف مازلنا نحمل همه، ونريد له أن يفتح وعلى مصراعيه، ومحاسبة المعذبين المتورطين بحوادث التسعينات، لا توفير أسباب الأمن والأمان لهم، فلا تزال آثار تلك الحوادث مؤثرة فينا، ولا يزال ضحايا التعذيب يستشعرون حاجة عميقة في نفوسهم في إعادة تأهيلهم للحياة، كما لا يزال سجناء الرأي يعانون على جميع الأصعدة، صحيا ونفسيا واجتماعيا، فجميعهم لا يزالون يعانون من أمراض شتى، والأوضاع الصحية لهؤلاء لا تبشر بخير، فلا أحد يدري ماذا كان يقدم لهؤلاء من طعام ولا كيف كانوا يعاملون، اللجنة الأهلية لضحايا التعذيب لطالما تحدثت عن هذا الهم، ونأمل أن ينظر إلى هذا الأمر بعين الاعتبار وإعطاء الملف حقه
إقرأ أيضا لـ "سكينة العكري"العدد 979 - الأربعاء 11 مايو 2005م الموافق 02 ربيع الثاني 1426هـ