العدد 978 - الثلثاء 10 مايو 2005م الموافق 01 ربيع الثاني 1426هـ

هل تقبل المعامير بأشلاء الحلول؟

"حديقة" مقابل السرطان!

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

التنمية كلمة مغرية جدا في هذا الزمان، وإن كانت لها كلفتها الكبيرة من الناحية الانسانية والبيئية معا. في الغرب اكتشفوا مبكرا أخطاء التنمية "المتعجلة"، فبدأت مصطلحات "الأمطار الحمضية"، و"ثقب الأوزون" و"الاحتباس الحراري"، تنهال على الإعلام، فيتلقفها الناس بقلق، ويتولى العلماء شرح مخاطرها، فيتحرك المجتمع للبحث عن حلول تنقذ الوضع قبل أن يصل إلى حد الكارثة.

ومع الأيام بدأت تتكشف للرأي العام مشكلات من نوع آخر لم يسمع أو يحلم بها أجدادهم من قبل: جبال الجليد التي ظلت في أماكنها ملايين السنين بدأت تذوب فتتسبب في فيضانات وسيول. درجة الحرارة التي عرفتها الأرض طويلا بدأت في الارتفاع بما يهدد مستقبل الأحياء على هذا الكوكب. والعلماء يقولون ان التنمية هي وراء ذلك كله، بما تنفثه المصانع وعوادم السيارات والطائرات والمكيفات والثلاجات و... مئات الأسباب الأخرى.

طبعا ليس هناك عاقل يدعو إلى العودة إلى الجمل والحمار وترك السيارة والطائرة، ولكن هناك أخطاء لازمت مسيرة التنمية في نصف القرن الأخير تحديدا. الشعوب الواعية التي تحدد مصيرها وطرق حياتها بنفسها، بحثت عن حلول وأملتها على حكوماتها طوعا أو كرها. العلماء والمثقفون والكتاب وقوى المجتمع الحية، كانوا في المقدمة لتصحيح الأوضاع الخاطئة. أما هنا فإن المثقفين لا يتعبون أنفسهم في معرفة ما يجري من مشكلات وكوارث، ويحتجون إذا تناولها غيرهم بهذه العناوين. ومصيبة من النوع الثقيل تخلف سبعين ضحية في قرية تعدادها 8 آلاف نسمة، لا تستدعي الكتابة عنها. ويحتجون على استخدام كلمة "كارثة" أو "أزمة" لتوصيف هذا الوضع الإنساني المزري. وإبراز المشكلة في المانشيت خطأ صحافي ومهني فظيع! لنصل إلى الاكتشاف الخطير: رسم المانشيت يا جماعة "مسئولية وطنية وقومية كبرى"! أما أرواح الناس والحفاظ على صحتهم فليس مسئولية وطنية كبرى، فالوطن كله مختزل في مصالح الشركات الكبرى.

التنمية في هذا الطرح ذي البعد الواحد، فقدت جوهرها حين أخذت تدور حول المال، فأصبح الإنسان رقما في سجل الوفيات، يسجل الاسم في خانة، وفي الخانة الأخرى سبب الوفاة: السرطان وأمراض الرئة، وهكذا ببساطة جدا. ويبدو اننا لم نعد نحس بالخطر إلا إذا نزل بساحتنا، أو أصاب أحد أقربائنا أو أهلنا، وإلا فإنه مرض عابر مثل الزكام!

على المستوى الرسمي، تابعنا محاولات التغطية على ماجرى، فنحن نعيش في "بيئة آمنة خالية تماما من الميكروبات والجراثيم" في هذا البلد. وهو تعاط تقليدي وغير مستغرب في بلد من بلدان العالم الثالث، اختط مسارا تنمويا معينا شابته أخطاء كبيرة حتى الآن.

الطرح الرسمي، والمدعوم إعلاميا بقوة من "صحافة الموالاة"، أمر اعتاده المواطن في هذا البلد الذي لا يقيم وزنا لأبنائه، ولكن أن يتبنى ممثلو المنطقة هذا الطرح ويجارونه فتلك كارثة أخرى. فنحن أمام قضية انسانية انتهت بموت العشرات، توصل القوم إلى حلولها "الجذرية" على طريقة "حب الخشوم": شفط البلاعات، و"البحث" عن قطعة أرض لإقامة حديقة عامة، وإعادة تأهيل سوق المعامير، والبحث من جديد عن موقع آخر لتسجيله لصالح الصندوق الخيري! وهكذا تكون الحلول!

أصارحكم انني لم استوعب اللغز الوارد في تصريح وزير البلديات والزراعة: فكيف سيسهم تنظيف ساحل المعامير في تحسين الأجواء البيئية في القرية؟ وهل الإصابة بالسرطان وأمراض الرئة والتنفس والإجهاض، سببه تلوث الساحل المسكين؟

عضو مجلس النواب عن المنطقة اتصل الاسبوع الماضي محتجا على ما نقلته من وصف الأهالي له بأنه من "النوع الصامت"، ولما طالبته بكتابة رد سننشره بالكامل في "الوسط"، رفض رفضا قاطعا وأراد أن يقاضيني أمام رب العالمين، فماذا سيقول يوم القيامة وهو يساوم على رفات الضحايا بحديقة عامة، مع ان اثنين منهم من عائلته؟ ومن المسئول عن الضحايا الذين سيتساقطون في الشهور والسنوات المقبلة إذا استمر التلوث بالغازات يعصف بالقرية؟

في الغرب يبحثون عن حلول، ونحن لتعاستنا نبحث عن قطع من اللحم المجفف. هناك يطالبون بحماية البيئة حماية للانسان، ونحن نبحث لشقائنا عن شق شارع وتشجير قرية يودع كل أربعة أشهر أحد ضحايا السرطان منها!

الحكومة، وصحف الموالاة، والاكاديميون، والممثل البلدي والبرلماني، وحتى الصندوق الخيري، كلهم اتفقوا على معادلة واحدة: "حديقة مقابل الاصابة بالسرطان"

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 978 - الثلثاء 10 مايو 2005م الموافق 01 ربيع الثاني 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً