مازالت مشاهد الصيف الساخن اللاهب الذي يهب على المنطقة، تتوالى أمامنا، بل تتصاعد بقوة تحت الضغط الأميركي المنظم والمتصاعد، منتقلة من دولة عربية إلى أخرى، لتكمل دائرة النار التي نصبتها السياسة الأميركية حولنا.
تحدثنا من قبل عن حملات التسخين الأميركية في مصر والسودان، الآن جاء دور سورية التي أصبحت بين عشية وضحاها في قلب دائرة النار هذه لأسباب كثيرة، وفي ظل ابتزاز متتالي، لا يريد أقل من الانصياع الكامل للأجندة الأميركية الهاجمة.
يلفت النظر طبعا، انه بينما كان ولي العهد السعودي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، في طريقه الى دمشق، بعد ان أتم مباحثاته مع الرئيس الأميركي بوش بأيام حاملا رسالة ما، تعمد الرئيس الأميركي تصعيد خطابه التهديدي لسورية، مؤكدا اتهاماته المتكررة لها، بأنها مازالت تدعم الارهاب وتثير الاضطراب في العراق، وتهدد الأمن القومي والاقتصاد والسياسة الخارجية الأميركية، ولذلك كله فإنه جدد فرض العقوبات على دمشق!
ولقد فهم الكثيرون ان التصعيد والتسخين الأميركي مقصود بالضرورة، وهادف الى ابلاغ القيادة السورية، ان قرارها بالانسحاب سريعا من لبنان تنفيذا لقرار مجلس الأمن رقم ،1559 ليس كافيا، فثمة استحقاقات أخرى مطلوبة لكي ترضى عنها واشنطن، أو على الأقل لكي تخفف عنها حملة الضغوط المتتابعة.
وبالتالي اختلفت التكهنات وتعددت التحليلات بشأن مضمون الرسالة المهمة، التي حملها ولي العهد السعودي من بوش بعد لقائهما الحميم في مزرعة الأخير بكراوفورد في ولاية تكساس، فثمة من يرى ان الطرفين اتفقا على تهدئة الأوضاع في الشرق الأوسط، وخصوصا في العراق الملتهب بالقتال لاتاحة الفرصة امام التقدم العملي في التسوية السياسية للمعضلة الفلسطينية والصراع العربي الصيهوني، وهو ما يتطلب تعاونا سوريا رئيسيا، فضلا عن الجهود المصرية.
وثمة من يعتقد ان ولي العهد السعودي فهم مدى قوة وتصميم الرئيس الأميركي على فرض سياسته وأجندته كاملة حتى بالقوة المطلقة والضغط الخشن، ولذلك فقد كانت رسالة تحذيرية الى سورية، اكثر منها تطمينية، ما يستدعي اتخاذ خطوات تعاونية أكثر، واثبات جديتها في دعم الأجندة الأميركية قبل ان تلتهمها دائرة النار في الصيف الملتهب!
الشيء الثابت الوحيد ان لقاء عبدالله - بوش في كراوفورد، أعاد تأكيد التحالف السعودي الأميركي، وتدعيم التعاون المشترك امتدادا من ضمانات تدفق النفط وانتهاء بمحاربة الارهاب، وكلاهما قد يخففان الضغوط الاميركية لاجراء اصلاحات ديمقراطية عاجلة أقوى وأسرع مما تحاوله السعودية الآن.
وفيما عدا ذلك، فمازالت الأسرار كامنة والتفاهمات غير معلنة، لكن الواضح ان اللقاءات الحميمة الأخيرة، قد أتاحت للطرفين التعبير عن آرائهما عن مجمل الأوضاع الملتهبة الدائرة في المنطقة والتي ستدور فيها خلال الفترة المقبلة، وهنا تدخل سورية الى بؤرة الالتهاب باعتبارها المستهدفة الأولى من جانب التحالف الأميركي الإسرائيلي الآن قبل الغد.
وبينما تراجع تأثير الدور المصري، الذي كان نشيطا وفاعلا، في بناء جسور التواصل وتبادل الرسائل، بين دمشق وواشنطن على مدى السنوات الماضية بسبب دخول العلاقات المصرية الأميركية في حال من التأزم المعلن هذه الأيام، برز الدور السعودي الآن بعد قمة كراوفورد الأخيرة سواء للتهدئة أو للتحذير، حتى تستطيع سورية ان تتدبر أمورها، وحتى تبدو إدارة الرئيس بوش وكأنها فعلت كل ما تستطيع من جهود دبلوماسية، وضغط هادئ لاقناع سورية بما تريده منها طبقا لمقولة بوش المتكررة "دمشق تعرف جيدا ما عليها ان تفعله!".
لكن الحقيقة غير ذلك في مجرى العلاقات السعودية الأميركية، التي تقافزت ما بين التهدئة والتسخين، وصولا الى حال الالتهاب الحالية، التي تنذر بصيف ساخن فعلا... اذ على رغم كل ما قدمته سورية من تعاون مع أميركا، سواء كان علنيا أو ضمنيا، في ظل إدارة الرئيس بشار الأسد، وبدرجة أكثر فاعلية وتعاونا، مما كان عليه الحال في ظل إدارة والده، فإن الاستجابة الأميركية جاءت صادقة رافضة تطلب المزيد والمزيد.
ولقد فشلت الإدارة الأميركية بقيادة الرئيس بوش وفي ظل التأثير الغلاب لعصابة المحافظين الجدد وثيقي الصلة بـ "إسرائيل" واللوبي الصهيوني في احتواء سورية، كما فعلت مع غيرها على رغم التغيير الملحوظ الذي جرى في عهد بشار الأسد، وبدلا من الاحتواء لجأت الى تصعيد الضغط المنظم تهديدا بالتدخل المسلح الأميركي المباشر، أو الاسرائيلي العميل والبديل!
ينبع هذا الفشل الأميركي في رأينا من أسباب كثيرة في مقدمتها طبعا تشدد عصابة المحافظين الجدد في تنفيذ الهدف الاسرئيلي بقمع الدور السوري الممانع والمساند للمقاومة في لبنان وفلسطين، ولم يكن اجبار سورية على الانسحاب العاجل من لبنان وفقا لقرار مجلس الأمن ،1559 الا خطوة أولية تتلوها خطوات هدفها فرض الانصياع الكامل، واسلوبها ممارسة الضغط المنظم المتصاعد مرحلة بعد مرحلة وصولا لرأس النظام في دمشق بعد ان بترت أطرافه في لبنان، ولغمت علاقاته مع كثير من العواصم العربية "الشقيقة" وألهبت حدوده مع العراق، ووضعته دوما في دائرة الاشتباه والاتهام بمساندة الارهاب المسلح وحيازة أسلحة الدمار الشامل!
وعلى هذه الأوتار عزمت السياسة الاميركية المنفلتة الحانا عدة تشدد على اتهامات مركبة ثابتة تحاصر سورية من كل اتجاه، باعتبارها الحليف العربي الاستراتيجي الوحيد لإيران، الدولة المارقة الأخرى الموضوعة على قائمة الارهاب، باعتبارها الحليف الاستراتيجي الرئيسي لحزب الله رمز المقاومة المسلحة في لبنان وللفصائل الفلسطينية رمز المقاومة الأخرى في فلسطين، وباعتبارها المتعاطفة علنا او سرا مع المقاومة العراقية، والمتهمة بفتح الحدود لتهريب الأسلحة وتسلل المقاومين الى الداخل العراقي.
ولم يشفع لدمشق ابدا انها انسحبت بسرعة لافتة من لبنان وأنها حدت من نشاط المنظمات الفلسطينية فوق الأرض السورية وانها أعلنت استعدادها للتفاوض المباشر مع "إسرائيل" وانها أكدت مراقبتها المشددة لحدودها على العراق، وانها قدمت معلومات استخبارية مهمة لواشنطن عن التنظيمات الارهابية وفق تصريحات سبق نشرها على لسان الرئيس السوري نفسه، وانها رحبت أخيرا بقيام حكومة عراقية منتخبة، وانها بدأت في اقامة علاقات دبلوماسية طبيعية مع بغداد اعترافا بالأوضاع الجديدة بل وأنها اعترفت بارتكاب اخطاء في لبنان على مدى السنوات الماضية!
وبدلا من تقدير السياسة الاميركية لهذه التحولات السورية الملحوظة، بشكل ايجابي يدفع لبناء جسور التفاهم لجأت واشنطن وفق أجندة المحافظين الجدد الى اساءة استخدام هذه التحولات لتدفع بها الى دائرة المطالبة بمزيد من التنازلات وصولا "للانصياع الكامل" وإلا...
والظاهر الآن ان الاصوات العاقلة داخل الإدارة الاميركية قد تراجعت لصالح علو اصوات المتشددين الذين وضعوا على رأس اجندتهم العاجلة، اقتحام سورية من الداخل، باسقاط النظام مباشرة وباعتباره مماثلا لنظام صدام حسين في العراق ونظام طالبان في افغانستان بل باعتباره "نظاما ميتا يمشي على قدمين مرتجفتين" كما ادعى أحدهم!
هكذا وضعوا سورية في دائرة النار الجهنمية واستفردوا بها، بينما تراجعت كل الأدوار الأخرى التي كان يمكن ان توقف التصعيد وتهدئ التسخين اللاهب، فالدور الأوروبي يلتقي مع الدور الأميركي في الهدف وان اختلف في الوسيلة والدور العربي اصلا اصيب بالسكتة الدماغية، بعد ان غرق كل نظام عربي في مأساته لا يقوى على مساعدة نفسه، فما بالك بمساعدة غيره، في حين يبقى الدور الاسرائيلي متصاعدا بالتحريض والاستفزاز والابتزاز والتهديد الدائم بالحرب!
لكن... يبقى الدور السعودي نفسه ومدى قدرته على احتمال واستيعاب كل هذه الضغوط المتصاعدة في الصيف الساخن اللاهب.
لقد فقدت سورية ورقة الضغط اللبنانية وتخلصت من عبئها وعبء أوراق أخرى وأظهرت حسن نوايا كثيرة، ومارست سياسات أموية تقليدية لا تقطع أبدا شعرة معاوية فاوضت وتعاونت وعارضت وناورت لكن المحصلة ان الضغوط الاميركية عليها قد تزايدت طلبا للمزيد!
وسواء قررت تقديم المزيد، أو قررت التصعيد فانها لن تستطيع الا بإعادة بناء الدور السوري من الداخل، بالمصالحة الوطنية الواسعة واحتواء المعارضة والرفض، واجراء اصلاحات ديمقراطية حقيقية، تطلق الحريات وتصون حقوق الانسان وتستبق "حصان طروادة" الأميركي المتسلل اليها عبر كل الاجواء بينما هي تبدو وحيدة تحت الحصار.
سورية ليست وحيدة تماما في هذا الخصوص، فمثلها كثير من الدول العربية، لكن كلا ينتظر دوره وفق صيفه اللاهب!
خير الكلام: قال معاوية:
"من لم يرض بمالي رضي بسيفي"
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 978 - الثلثاء 10 مايو 2005م الموافق 01 ربيع الثاني 1426هـ