من يقرأ تفاصيل المشهد السياسي في الكويت يجد أن الإصلاح المنشود يسير على ظهر سلحفاة، هذا إن كان هناك ثمة إصلاح سياسي، وأن الأولويات مختلطة إلى درجة أن المواطن فقد الثقة في مفهوم الإصلاح وطريق سيره. أولوية الإصلاح المطلوب في الكويت لا يختلف عليها كثيرون، وهو إصلاح قاعدته نوعية التمثيل في مجلس الأمة، فهو البوابة الحقيقية لجدية ونجاعة أي إصلاح سياسي قادم أو مأمول.
في غضون الثلاث سنوات الماضية، أطيح بثلاثة وزراء عن مناصبهم، بسبب هذا الشد والجذب بين المجلس والحكومة، الذي لا يعرف له المواطن قاعدة يستطيع القياس عليها، وتعرض خمسة وزراء على الأقل في الوزارة الحالية إما بالوقوف على منصة قصف العمر السياسي وهي الاستجواب، وبعضهم وقف أكثر من مرة، أو التهديد المغلظ بفعل ذلك، عدا أن هناك عشرات من القوانين واجبة الإصدار تئن طالبة الإفراج في أضابير اللجان المختلفة الوزارية ولجان المجلس، من دون أن يلتفت إليها أحد، لان بها مصالح مرسلة للمواطنين وليس بها مصالح خاصة للأفراد، وهي قوانين تصلح من النسيج الاجتماعي الداخلي الذي اعتراه الكثير من الوهن، بدليل هذه الظواهر الاجتماعية المتفشية والخطيرة، كالجريمة والإرهاب والفساد، وامتهان الكفاءة وتدني مستوى التعليم وقصوره الفاضح عن تحديث العلاقات الاجتماعية. أو هي قوانين توائم المصالح الوطنية مع المصالح الإقليمية والدولية، التي أصبحت ضاغطة تتحدث عنها دوائر القرار في الغرب.
في الأسابيع الأخيرة ازداد هذا الشد والجذب بين الحكومة والمجلس إلى درجة التوتر على خلفية تمكين المرأة في انتخابات المجلس البلدي أو في الانتخابات العامة "الأمة".
ليس كل من اعترض أو امتنع عن التصويت على تمكين المرأة في انتخابات المجلس البلدي التي أزمت المشهد السياسي أخيرا، هو من حيث المبدأ ضد تمكين المرأة ونيل حقوقها الإنسانية والسياسية، فقد كان بعضهم يسعى إلى الوصول إلى صفقة سياسية بين تمرير تمكين المرأة، التي يرى أن الحكومة تزداد حرجا بشأنه، وبين مطالب مثل رفع مرتبات الموظفين وما حولها من مطالب أخرى. فالرؤى لدى بعض أعضاء المجلس في الوقوف ضد التمكين، لا لأنهم ضد المبدأ، بل لأنهم يريدون أن يحققوا صفقة عجزوا عن تحقيقها بالآليات المتاحة، واستخدموا الموقف للضغط السياسي على الحكومة، ولا يجوز انتفاء احتمال الحصول، بسبب هذا الموقف من النواب، على شعبية تصويتية لصالحهم، خصوصا في ظل التهديد بحل المجلس، لأنه وقتها من السهل القول للقواعد إن الحل جاء على قاعدة حرمانكم من المنافع المادية التي يعرف الجميع أن بعض الموارد منها تستباح للخاصة، بحسب تقرير الفساد الحكومي المنشور، وهو اعتراض مرض للأغلبية الشعبية إن استبعدنا النوايا السلبية وتحدثنا عن الواقع.
تأزيم الموقف على هذا المحور يدل دلالة لا ترقى إلى الشك على أن الآلية بين السلطتين وصلت إلى مرحلة عدم ثقة مزمنة، فقد انقلب مفهوم تعاون السلطتين لخير العموم المجتمعي، إلى تعاند السلطتين بالتضحية بالمصالح المرسلة لعموم المواطنين، وكل له أسبابه المعلنة أو الخفية.
من المتعارف عليه أن الحكومة، أية حكومة هي قصيرة النظر، تتعامل مع العاجل وان كان أقل أهمية من الآجل وإن كان أكثر أهمية للأغلبية، والحكومة الكويتية ليست استثناء من ذلك، فليس من الأسرار أن قانون الانتخاب القائم حاليا يسهل هذا النوع من تفضيل المصالح الجزئية والضيقة على المصالح العامة، لان الأعضاء هم نتاج هذا القانون، ففي دراسة موسعة لنتائج الانتخابات في الثلاث دورات الأخيرة لمجلس الأمة في الكويت، وجد أن كل الأعضاء الذين وصلوا إلى السدة البرلمانية حصلوا على عشرين في المئة من أصوات دوائرهم فأقل، والاستثناء الوحيد كان في الدورة الأخيرة ولعضو واحد هو جاسم الخرافي، الذي حصل على نسبة اكبر من تلك النسبة.
إذا اعتمدنا تلك الحقيقة وأضفنا إليها حقائق أخرى في استثناء النساء ورجال الجيش والأمن والرجال فوق الثامنة عشرة ومن دون الواحدة والعشرين من العمر، نصل إلى نتيجة مفادها أن مجموع الجمهور الناخب في الكويت من الكويتيين، لا يزيد عن خمسة عشر في المئة من المواطنين! وهنا ينطبق العنوان على نتيجة التحليل، إن مجلس الأمة الكويتي اسم على مسمى، فكيف تكون "الأمة" ممثلة فقط بخمسة عشر في المئة من أبنائها؟ على رغم التحفظ على لفظ ومعنى "الأمة" هنا، فان كان المقصود بها تمثيل الجمهور الواسع، فان التمثيل بالأرقام ضيق ومحدود، إذا أضفنا على نسبة التمثيل الضئيلة، تلك الفروق القليلة في الأصوات في الدوائر المختلفة، بين حصول المرشح "الثاني" الذي وصل للسدة البرلمانية وبين "الثالث" الذي فشل، وفي معظمها لا يتجاوز من الصوت الواحد إلى مئة صوت على الأكثر، وهو قليل، نتعرف على شكل التمثيل ومعضلته في السدة البرلمانية الكويتية اليوم.
هنا تظهر جميع الأمراض العالقة في الجسم السياسي الكويتي منذ زمن، منها أن النائب الذي يعرف أنه إن استطاع إقناع فقط حوالي عشرين في المئة من أعضاء الدائرة المرشح فيها، يستطيع الوصول إلى الكرسي البرلماني، سيظل حبيسا لهذه المجموعة الصغيرة، سواء كانت طائفية أو قبلية أو أسرية أو تيارية "من تيار"، كما أن الإغراء المالي هنا سريع التأثير في النتائج، في ظل ما نعرفه من إمكان تشتت الأصوات.
وفي بناء قانوني صمم لعدد صغير من الجمهور، كان قبل أربعين عاما لا يزيد مجموعه عن ثلاثمئة ألف، وصل اليوم إلى أكثر من مليون من البشر، تتضح صورة الأزمة، فالملعب يضيق بكثير على قدرة اللاعبين على الحركة، وفي ظل هذا النوع والحجم من التمثيل، إضافة إلى قفل قسري لقنوات التطور الطبيعي في الجسم السياسي، بمعنى السماح لتنظيمات سياسية حديثة فوق عرقية أو دينية أو طائفية، أو تطبيق المتعارف عليه من آليات العمل السياسي، كأن تكون الحكومة بالضرورة والقانون متضامنان، فان الأزمة التي يواجهها العمل السياسي الكويتي اليوم ليست أزمة طارئة، ولا هي قابلة للحل بالمسكنات، هي في الحقيقة استحقاق وطني كبير ومهم آن أوانه، مدخله الطبيعي تطوير قانون الانتخاب من جهة وتوسيع الدوائر، ووضع برامج للكتل السياسية، والتمثيل النسبي، حتى ننتقل من التمثيل الشخصي، إلى التمثيل البرلماني الأوسع.
هذا الاستحقاق لا تفرضه فقط التطورات الداخلية والمصالح الوطنية العليا للانتقال النوعي من حال سياسي إلى آخر، بل وتضغط عليه تطورات إقليمية وعالمية لا يمكن تجاهلها، سواء من المدخل الاقتصادي أو المدخل الاستراتيجي أو السياسي، أليس لافتا للنظر كل هذه المؤشرات الدولية المتسارعة، في الإقليم الخليجي والإقليم العربي، والتدخلات الدولية في الفضاء المحيط بنا من أجل إصلاح سياسي ذي معنى!
قد يكون حتى مسمى "مجلس الأمة" الذي اقتبسناه من دون كثير تفكير، وتخلى عنه حتى من اعتمده من العرب أول مرة، يحتاج إلى إعادة نظر، وإن كان ذلك في التفصيل غير الملح إلا انه مؤشر لثقل الخطوات التي ننقل بها أقدامنا في المجال السياسي، الذي تعارف العالم بأن إصلاحه، هو مدخل كل إصلاح وبيان لنوايا وتوجهات ينتظرها الجمهور المحلي، وترمي إليها الدوائر الدولية. فهل نتوقع إقداما على مثل هذه الخطوات التي أصبحت أكثر من ملحة، أم ترى سيكون شعار المرحلة مكانك راوح، وانتقال من التكتيكات الصغيرة إلى أمثالها؟
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 977 - الإثنين 09 مايو 2005م الموافق 30 ربيع الاول 1426هـ