من أبدع النكات المعبرة التي تنقل عن جحا، انه كان مارا بجماعة من الناس كانوا متألبين على رجل يضربونه بكل غيظ وقسوة وشراسة، فشمر عن ساعديه وانخرط معهم في هذا "الجهاد"! فسأله أحد المارة: لماذا تضرب الرجل؟ فأجاب: "لا أدري. .. إنما أردت مشاركة الجماعة في الأجر والثواب، أليست يد الله مع الجماعة"؟!
ربما يلتمس المرء مبررا لدى بعض المتضررين ماديا أو معنويا، أما عقد سرادق للنياحة المصطنعة، والتفرغ لترويج الكذب على الناس، والتدجيل وخداع من لا يعرف من الحكاية إلا بعض أطرافها، وتزوير الحقائق وتقديمها في ثوب مهلهل منكوش، فهذا ما لم نكن نأمله في من يحمل قلما يطلب الحقيقة ويدعي الانتصار للحق.
ولا تنسوا أن للحقيقة ألف وجه، بعدد أصحاب المصالح فيها، أولهم وآخرهم المنافسون في السوق، ولا يغرنكم لبس البراقع ولا حتى تكرار "الصلاة على محمد وآل محمد"! ابحثوا عن المصلحة، فثمة تفسير للمواقف والعنتريات. وليس أضر على الحقيقة ممن يدعي محاربة الكذب وهو ينصب خيمة كبرى من الأكاذيب وتدشين عهد جديد من التزوير وانتهاز الفرصة لتصفية الحسابات الفردية والتحامل الشخصي والتنفيس عن الأحقاد على ظهور الغافلين.
من السهل ادعاء النزاهة والبراءة والطهر، ولكن من الصعب أن تقنع شعبا قارئا إذا امتلأت كتاباتك المرسلة برائحة الثارات. اما إذا شارفت الكتابة على الكذب، فإن السكوت عليها يعد مشاركة في جريمة التضليل. والتضليل هنا يطول ذاكرة شعب كامل، طالما حاولوا الضحك عليه فيما مضى، ولأن قواعد اللعبة تغيرت فتصبح المحاولة مكشوفة، فيصعب ممارسة اللعبة القديمة التي شربنا كأسها حتى الثمالة.
نحن إذا أمام محاولة "نموذجية" من الاستكلاب الشرس، لمصادرة تجربة ثرية علمتنا الكثير، شابتها أخطاء كثيرة، ولازمتها انجازات ومكاسب كبيرة أيضا، على مستوى المهنة والوطن، لا ينكرها منصف قط. وكم تمنينا في سياق هذا الطرح المحموم أن يتذكر الجميع: "وإذا قلتم فاعدلوا". ولأنه ليس هناك ميزان حق يتحكم في الكلمات، فلا غرابة ان يحظى عجوز متلون متقلب مع كل ريح بدرجة "كاتب كبير" من مرتبة الشرف! وهو الذي كان يقول: سأجلب لكم مجموعة مع المقالات، التي تصلح للنشر انشروها والتي لا تصلح "قطوها في الغمامة"!
وإذا افتقرت المنهجية إلى الحياد، وإذا غرقت في الذاتية المفرطة وتصفية الحسابات الشخصية يقينا، فلاغرابة أن يتم تأويل ما لا يؤول: فاستئجار مبنى لشركة جديدة وتوظيف حراس أمن لحفظ الممتلكات والأجهزة، تصبح هذه الخطوة المنطقية جدا هاجسا أمنيا مفرطا! ولأن المبنى لم يكن مصمما أصلا لصحيفة، فواجهاته زجاجية ثابتة وليست نوافذ، لذلك واجهت الإدارة مشكلات في التكييف وتدوير الهواء استغرقت أسابيع لحلها بدخول تقنية رش العطر لتلطيف الجو. هذه التقنية المنتشرة في الكثير من المباني المغلقة، فسرت على انها هاجس أمني أيضا! وضمن سياق التفسير "التآمري" نفسه، اعتبروا موظفي الأمن "جواسيس"، وهؤلاء شباب من أبناء هذا الوطن الذين يكسبون لقمتهم بالحلال، بعضهم ترقى في عمله وانتقل إلى أقسام أو شركات أخرى في وظائف أرقى. حتى البدالة الصغيرة التي تحول مكالمات القراء إلى المحررين لم تسلم من الافتراء، فأصبحت "جهازا للتجسس"! كلها للإيهام بأن هذه المؤسسة الصحافية المستهدفة من عدد كبير من الأطراف، تحولت إلى قلعة من قلاع المخابرات، لا تدخلها إلا بتفتيش دقيق واجراءات أمنية مشددة! ويمكن لأي مواطن التأكد من صدق هذه الأقاويل المعطوبة بنفسه، ولكن إذا رخص الكلام سقطت الحقائق وراجت الأوهام.
نحن لم نمت بعد، ومع ذلك هناك من يرغب في كتابة تاريخنا على أشلائنا، اعتمادا على ثلاثة أشهر عاشوها في بحر هائج مائج، كانوا يطلبون خلالها من حراس الأمن "الجواسيس" ألا يدخلوا عليهم أحدا من المراجعين حتى كثرت الشكاوى من هذا السلوك. وهكذا يجري تزوير الحقائق وإقحام أسمائنا في شأن نشهد على كذبه جملة وتفصيلا، ولا يهمنا إلا امتهان الحقيقة بهذه الصورة الموغلة في التضليل. وإذا كان ثمة حقائق فهي شعرات بيضاء معدودة ضائعة في الكبش الأسود.
بقيت النصيحة واجبة في عنقي لطلاب الحقيقة الصادقين، مهما كثر ت الدروشة وامتدت الخيام في صحرائكم: عبثا أن تبحثوا عن حقيقة عند من يحمل ثأرا أو ضغينة أو حقدا شخصيا، وقبيح بالمرء أن يقدم ظهره مركبا للآخرين، ويقبل بدور المطية لتصفية الحسابات الشخصية أو رفع رصيد الطامحين في بورصة "النضال" أو الحصول على فرصة عمل آخر. فاربأوا بأنفسكم أن تكونوا مطايا ذللا لنعاثل الصحراء، وليس من المروءة المشاركة في ضرب الرجال طمعا في أجر مزعوم
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 977 - الإثنين 09 مايو 2005م الموافق 30 ربيع الاول 1426هـ