تدور الآن منازعات لبنانية في المجلس النيابي والشارع بشأن قانون الانتخابات. وكل فريق يريد "ليلى" كما يراها في أحلامه وتصوراته. ولكن الواقع لا يتكيف بالضرورة وفق مقاسات والشروط النظرية. فالنظرية في النهاية "حتى لو كانت مستوردة" تخضع للواقع الاجتماعي وشروط تطور العمران والظروف التاريخية المحيطة بذاك النموذج الذي يطلق عليه: الديمقراطية في "الشرق الأوسط".
في أربعينات القرن الماضي عاد المؤرخ اللبناني جواد بولس من مغتربه وقرر العيش في بلدته والتقاعد للتفرغ إلى مشروعه: كتابة تاريخ لبنان والشرق الأوسط.
إلى جانب كتابة التاريخ قرر بولس تطوير زراعة القمح في لبنان. فحبة القمح اللبنانية صغيرة الحجم وسمراء اللون وصلبة "يصعب طحنها" فاتجه إلى استيراد بذور القمح الاسترالي. فحبة القمح الاسترالية طويلة الحجم وشقراء اللون وطرية "يسهل طحنها". وبدأ بولس في مشروعه المزدوج: كتابة التاريخ وتطوير زراعة القمح.
في الموسم الأول كان النتاج رائعا وكما يريده. وفي الموسم الثاني تراجع المحصول وتغير شكل القمح الاسترالي. وفي الموسم الثالث بدأ يتقلص حجم القمحة وتزداد صلابة. وفي الرابع اقترب شكل القمحة إلى "النموذج" اللبناني. وفي الموسم الخامس أصبحت القمحة الاسترالية لبنانية في حجمها ولونها وقساوتها.
طرح هذا التغيير مجموعة أسئلة في فكر بولس وانتهى المؤرخ إلى صوغ نظرية تقول: إن للطبيعة شروطها وهي في النهاية تتحكم في شكل الإنتاج وأنماطه وتحدد لونه وحجمه وشخصيته. بعدها قام بولس بنقل نظريته عن الطبيعة "تجربة زراعة القمح" وطبقها على الاجتماع البشري "العمران" وقرر أيضا أن للمجتمع شروطه وهو في النهاية يتحكم في قوانين التطور وأنماطه ويحدد طبيعة العلاقات وشخصية الناس ومسلكهم وثقافتهم وحضارتهم.
وفي ضوء نظريته الجغرافية - الاجتماعية أعاد بولس كتابة تاريخه عن لبنان والشرق انطلاقا من تلك التجربة البسيطة: زراعة القمح.
أحدث تاريخ بولس هزة سياسية - فكرية في وقته وترجم إلى لغات أوروبية، ونقل إلى الفرنسية وترك أثره على الكثير من القيادات والشخصيات في تلك القارة منهم الرئيس الفرنسي الجنرال شارل ديغول، الذي أشاد في مذكراته بتاريخ جواد بولس، مشيرا إلى أنه أسهم في توضيح تلك الرموز والالتباسات وذاك الغموض الذي عطل عليه القدرة على فهم وإدراك خصوصية تاريخ لبنان والشرق.
تجربة بولس مع تاريخه مفيدة لإدراك الكثير من الأوهام وتساعد على تفسير بعض ما نراه من نتائج تصدم تلك الاتجاهات "العلمانية" و"الحداثية" في المنطقة التي تطمح إلى زراعة قمح الديمقراطية في "الربع الخالي".
وأبرز الأمثلة على تلك الأسئلة هي من نوع "لماذا اختار الشعب العراقي اللائحة التي دعمها السيد السيستاني وتجنب التصويت لتلك اللوائح المدعومة مباشرة من الاحتلال؟". أو "لماذا صوت أهل السعودية لتلك اللوائح التي دعمتها الاتجاهات الإسلامية؟". أو "لماذا يرفض المجلس الكويتي المنتخب حق المرأة بالتصويت على رغم مرور 15 سنة على الوجود الأميركي في المنطقة، وعلى رغم حضور نانسي عجرم إلى الكويت مصادفة مع حفل تصويت مجلس الأمة؟". أو "لماذا الديمقراطية في لبنان طائفية وتقوم بدور ذاك الحارس التاريخي لحماية التخلف السياسي؟". أو "لماذا تحولت الديمقراطية في مصر إلى ديمقراطية القطاع العام تمنع القطاعات الخاصة من الانتقال من الشارع إلى البرلمان ومن مجلس الشعب إلى الدولة؟".
هناك الكثير من الأسئلة الممتدة على امتداد المساحة "الديمقراطية العربية" من المغرب إلى اليمن. في الصومال مثلا تحولت قاعة البرلمان إلى حلبة ملاكمة وضرب كراسي بين نواب "القبائل والمناطق" الشعب حين اختلفت التكتلات على صوغ قانون.
المسألة إذا معقدة وهي بحاجة إلى تفكير لإسقاط تلك الأوهام النظرية "المستوردة من الولايات المحدة وغيرها" وإعادة إنتاج فكر سياسي يستفيد كثيرا من مشروع جواد بولس في زراعة القمح الاسترالي في جبال لبنان المرتفعة جدا.
بولس استفاد من تجربته وتعلم واستنتج نظرية جغرافية - اجتماعية لكتابة تاريخ المنطقة، فهل تستفيد مجموعات "الحداثة" و"العلمانية" و"الشفافية" و"تمكين المرأة" من تجاربها وتعيد إنتاج نظرية سياسية تتكيف مع واقع العمران البشري والتطور التاريخي الذي تمر به المنطقة؟
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 976 - الأحد 08 مايو 2005م الموافق 29 ربيع الاول 1426هـ