كم مرة في الأسبوع نسمع مفردة "الوحدة الوطنية"؟ وكم مرة في الأسبوع تتردد مفردات مثل "جميعنا مواطنون"؟ وكم مرة في الأسبوع تتردد مفردات "الوحدة الإسلامية" و"وحدة المسلمين"؟ وكم مرة في الأسبوع تتردد كلمات مثل "ان ديننا واحد". ..؟
كلما سمعت الحاحا على الوحدة الوطنية أيقنت تماما أن هذا الإلحاح دليل على أننا نعيش حالة من الاحتراب النفسي. وكلما سمعت الحاحا على الوحدة الاسلامية، أيقنت أن مسلمي هذه الأيام غارقون في تعداد الفوارق الصغيرة ليقيموا الجدار متينا وحصينا فيما بينهم أكثر من استعدادهم للاستجابة للحس السليم والفطرة في إدراك ما يجمعهم.
عدا أن هذا ليس ما يستوقفني هذه المرة، فقاعدة المنطق واضحة: الالحاح على أمر ما دليل على فقدانه. علتنا في مكان آخر.
علتنا في النخب التي تزدهر هذه المفردات في خطابها ليل نهار. نخب السياسيين وفي وصف آخر يسمونهم الطبقة السياسية. ورجال الدين، المثقفين وصناع الرأي العام وكل هؤلاء الناشطين في كل ميدان. فهؤلاء إذ يشكلون طبقة بكاملها فانهم لا يقدمون سوى أسوأ أنواع العلاقات ضمن هذه الطبقة.
هل يتواصلون إنسانيا؟ أعني هل يزورون بعضهم؟ هل يشربون الشاي أو القهوة معا في أمسية؟ هل يضربون مواعيد فيما بينهم للذهاب إلى مسرح ومشاهدة مسرحية؟ هل يحضرون حفلات تخرج لأبناء بعضهم؟ هل يتبادلون الهدايا؟ هل يتحادثون بالهاتف للاطمئنان على صحة بعضهم وأحوالهم؟ هل يسألون بعضهم في مكالمة عن أبناء بعضهم أو أحفادهم أو عن أحوال الزوجات وصحتهن؟ هل يدعون بعضهم إلى الغداء أو العشاء في منازلهم؟
ان جئنا لرجال الدين من الطائفتين، فإن إصرار هؤلاء، الذين تصلي وراءهم الجموع وتستفتيهم الناس في كل صغيرة وكبيرة، على الوحدة الإسلامية ووحدة المسلمين ووحدة الدين لم يجعلهم حتى اليوم يتخلون عن أبسط ما في طبائع البشر ويبادرون إلى التواصل الإنساني فيما بينهم. تواصل إنساني مجرد مفقود تماما وهم لا تفصلهم سوى كيلومترات معدودة عن بعضهم في بلد صغير مثل بلادنا وفي مجتمع ظل رصيده من التضامن الاجتماعي والإنساني هو الأهم. هكذا يقودوننا إلى مفارقة: ففيما يتواصل المواطنون من مختلف المذاهب منذ صغرهم في المدارس والجامعات وأماكن العمل ويتزاوجون، فإن قادتهم الروحيين الذين يتحدثون عن وحدة المسلمين ليل نهار لا يطرقون أبواب بعضهم حتى لشرب فنجان قهوة.
أمام هذه المفارقة، يستدعي ذهني صورا وأمثلة من لبنان. لبنان الذي يردد فيه مسئول مسيحي عبارات من القرآن الكريم ويردد فيه رجال دين مسلمون مقولات من الانجيل أو حتى مقولات من جبران خليل جبران: "إذا المحبة خاطبتكم فصدقوها". بل ان حوارا من رواية يدفعنا للأسى أكثر من هذا القدر. ففي روايته الرائعة "صخرة طانيوس" يرسم أمين معلوف حوارا على لسان الشيخ فرنسيس الماروني الكاثوليكي وصديقه سعيد بك الدرزي عندما جاء الثاني يعزي صديقه الشيخ فرنسيس بوفاة زوجته. "منذ أن عرفتك يا سعيد بك وكلمة جار أقرب إلي من كلمة أخ".
أما الطبقة السياسة فإن حالها ليست بأفضل من هذا بكثير. فأولئك الذين جمعتهم المنافي والدم وضرائب النضال والذين تجمعهم اليوم هموم الوطن والشعب هم أبعد من أن يتواصلوا إنسانيا بعيدا عن خلافات البرامج والمواقف والرؤى وانفعالات الصغار من الأنصار. ولو أنهم أقاموا جسور التواصل الإنساني واشاعوا الدفء في علاقاتهم بعيدا عن كل هذا الفلكلور البحريني في تغذية الخلافات لتمكنوا من حل الكثير من خلافاتهم السياسية التي لم تثمر سوى انعدام للفعالية.
أما نحن الصحافيين الذين نكتب في كل شيء ونصدر الفتاوى في كل شيء، فلا نجلس على تلة أخلاقية. القائمون على الصحف ورؤساء مجالس الإدارات ورؤساء التحرير يباعد بينهم بون شاسع من المشاعر السلبية أيضا وليس بينهم أي تواصل إنساني. اما الضحية فهي المهنة وأهل المهنة. ما من مهنة يسودها التنافس في أكثر صوره رقيا وأكثرها انحدارا مثل الصحافة، لكن الفارق أنه في بلدان أخرى، فإن هناك حدا أدنى من الحس السليم الذي يدفع أهل المهنة إلى الوقوف معا لحماية المهنة والعاملين في المهنة والدفاع عنها. أما هنا فالأمر مختلف، كل متمترس في امبراطوريته الصغيرة وعاجز حتى عن دعوة زملائه إلى فنجان شاي أو زيارتهم في بيوتهم اللهم الا لتقديم التعازي. لا يتبادلون التهنئة مع بضعهم حتى في مناسبات صدور صحفهم.
هذه هي ملامح تصحر إنساني لنخبنا فما الذي تريدون أكثر لكي تستدلوا على مجتمع فقد بوصلته وأضاع نوازعه الإنسانية؟ نتحدث كثيرا عن العمل والبرامج والطموحات والأهداف الكبرى، لكن البحرينيين لايزالون غارقين حتى اليوم في أبسط أنواع ردود الفعل الإنسانية على طريقة "يختلف معي إذا فهو يكرهني".
سنظل نسمع من يحاجج بأن في الامر مبالغة وان العمل السياسي والعمل العام عموما يتطلب ما هو اكثر من المشاعر. ألم تسمعوا هذا منذ ان أحسنتم القراءة والكتابة؟ هذه قصة ليست جديدة، لكن الجديد هو ان يكتشف مجتمع إلى أي حد وصل في فقدانه نوازعه الإنسانية. ومن الممكن ان تصنع الأموال والاستثمارات والمصارف والشركات والخطط الاقتصادية والإرادة السياسية اقتصادا متعافيا ومعيشة حسنة للغالبية العظمى من الناس، لكن المجتمعات لا تبنى بالأموال والاستثمارات الأجنبية ولا الشركات ولا كثرة الحديث في السياسة ولا كثرة الناشطين ولا التعددية الحزبية في أفضل صورها. المجتمعات مهما ازدهرت فإنها من دون المحبة ليست أكثر من مجتمعات بلا قلب.
كيف يمكن ان نبني وحدة وطنية فيما الذين ينادون بها لا يتواصلون مع بعضهم إنسانيا وهم في حال خصام؟ كيف نسعى إلى الوحدة الإسلامية إذا كان قادتنا الروحيون لا يعرفون طريق بيوت بعضهم؟ ولا يتواصلون إنسانيا مع بعضهم؟ وكيف يمكن للصحافة ان تتطور ما لم يتخلص الصحافيون من خصام وصراع زوجات الأب هذا بين القائمين على الصحف؟
هذا حال نخبنا، فما الذي تتوقعونه من الأنصار والأتباع والمريدين؟ ليس أكثر من هذا المثل الآتي من قلب الصحراء الكبرى على لسان الطوارق الملثمين: "آسخركن أمغار نسن، آدخركن ايبراض نسن"... أي: "إذا ضاع شيوخهم ضل شبابهم".
لقد نصحنا جبران بالإصغاء الى صوت المحبة، ومن الواضح أن المحبة هي التي نفتقدها
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 974 - الجمعة 06 مايو 2005م الموافق 27 ربيع الاول 1426هـ