كيف يمكن محاكمة النظام اللبناني "كوتا الطوائف" أو على الأقل كيف يمكن قراءة عناصره التكوينية التي أسهمت في إنتاج "ديمقراطية الطوائف"؟ القراءة صعبة نظرا إلى تعقيدات النظام وتداخل انماطه بين القوانين الاقتصادية المتقدمة "السوق الحرة والمنفتحة" وبين القوانين السياسية المتخلفة "الحصص المنغلقة والموزعة بالتوافق الدستوري".
فكرة الديمقراطية "نظام التصويت" ليست جديدة في لبنان فهي أصلا مستوردة ولكن النخبة السياسية أسهمت في إعادة إنتاجها لتتوافق مع طبيعة البلاد الاجتماعية وخصائص طوائفها. وبهذا المعنى تعتبر الديمقراطية المعتمدة لبنانية الإنتاج وروحها مستمدة من واقع ديموغرافي "سكاني" مركب. فهي في النهاية صورة سياسية عن واقع محدد. ولذلك قررت النخبة السياسية "الدستورية" في مطلع عشرينات وثلاثينات القرن الماضي "لبننة" الديمقراطية فاعتمدت الطائفية كأساس لنظامها السياسي واعطتها روحية الجماعات الأهلية. فالدستور في النهاية، وكما يقول مونتسكيو، روح الشعب أو يعكس روحية الناس في درجة محددة من تطور الجماعة الأهلية. فالروحية أحيانا تكون أقوى من النص وحين يتعدل النص ويتطور لابد أن يعكس درجة تطور روح الجماعة. والجماعات في لبنان لاتزال حتى الآن نتاج الانقسامات الأهلية "الطائفية، والمذهبية" وأحيانا تولد تلك الانقسامات مجموعة دوائر عشائرية وعائلية تتكيف مع هيئات أصغر من الطائفة والمذهب.
بهذا المعنى تحولت الديمقراطية في لبنان إلى جهاز انتخابي "تصويتي" يرعى كل أربع سنوات إنتاج التوازنات السياسية بين الطوائف والمذاهب والمناطق، ثم إعادة إنتاج توازنات مراكز القوى داخل كل طائفة ومذهب ومنطقة. فالتغيير "التطور" يحصل دائما ولكنه لا يتعدى حدود الطائفة والمذهب والمنطقة. وهذا يعني أن التقدم السياسي مشروط وتتحكم توازنات الطائفة أو المذهب أو المنطقة في تحديد سقف تلك الشروط.
عند تأسيس دولة لبنان الكبير في العام 1920 توزعت المناصب والمقاعد على مئة عائلة انتمت إلى مختلف طوائف البلاد. وتشكلت من تلك العائلات أنظمة تكفلت في توزيع الحصص داخل كل منطقة وطائفة. واستمر احتكار تلك العائلات للسلطة قرابة نصف قرن ثم ظهرت من بينها وضدها عائلات جديدة نافست ذاك الاحتكار. كذلك خرجت من بين الطوائف مجموعة أحزاب حديثة وعصرية "قومية، دينية، علمانية، الحادية" اخترقت حدود الطوائف والمذاهب ولكنها كانت في النهاية ترضح لشروط تطور المنطقة وقيادة التنظيم المذهبية.
هذا التطور "الحديث" لم ينجح في إنتاج "الحداثة" بل بقي أسير تلك الشروط "الواقعية" المذهبية والطائفية. وبالتالي أحدث التطور الجديد تغييرات في الطائفة وليس في الدولة. أي أن مجموع العائلات الجديدة وكذلك الأحزاب الحديثة ورثت مراكز التمثيل السياسي لمن سبقها من احزاب تقليدية وعائلات استقراطية "الاقطاع السياسي". فالحزب نافس العائلات التقليدية في الطائفة. والعائلات النامية نافست تلك التي انفردت بتمثيل الطائفة في المجالس النيابية أو الحكومات أو إدارات الدولة ووظائفها.
لاشك في أن النظام السياسي "التأسيسي" لعب دوره في تحديد التطور ومحاصرته في دائرة الطائفة أو المذهب أو المنطقة. وبدورها لم تنجح حتى الاحزاب الحديثة من التهرب أو تجاوز هذا الواقع الانقسامي الذي يعاد إنتاجه طائفيا كل أربع سنوات مرة.
حصلت الكثير من التعديلات في مراكز القوى السياسية التي تمثل هذه الطائفة أو ذاك المذهب في البرلمانات والحكومات وغيرها من وظائف رسمية في الدولة إلا أن منطق التعديل لم يتطور إلى مستوى التغيير وانما اقتصر على الاستبدال فقط. فالطوائف استبدلت من يمثلها من هذه العائلة إلى تلك أو من هذا الحزب إلى ذاك من دون أن يطرأ التبديل على النظام اللبناني العام. وهذا الأمر لايزال ساري المفعول حتى العام .2005
محاكمة النظام اللبناني صعبة جدا لأن موادها تتطلب إعادة قراءة لتلك العناصر التكوينية التي انتجت "ديمقراطية الطوائف". وإعادة النظر بشروط تلك الديمقراطية المتخلفة تستوجب تأسيس دولة غير طائفية... وهذا كما يبدو حتى الآن من الأمور المستحيلة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 974 - الجمعة 06 مايو 2005م الموافق 27 ربيع الاول 1426هـ