العدد 973 - الخميس 05 مايو 2005م الموافق 26 ربيع الاول 1426هـ

النور يشع من المخيلة

المعري... الفلسفة شعرا "5"

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

قرر المعري مغادرة بغداد في العام 401هـ "1111م". فالمدينة التي توقع منها الكثير لقي منها القليل. والقليل كان يعاكس مراده ومبتغاه. فبغداد بدأت تتغير وما يقال عنها يخالف ما وجده فيها.

هناك أكثر من رأي بشأن قرار المعري. فالبعض يربط المسألة بوصول خبر عن مرض أمه التي تركها في المعرة. والبعض الآخر يربط قراره بذاك الحادث الذي أسفر عن طرده من مجلس الشريف الرضي. ويرجح أن يكون السبب هو فشله في التكيف مع مدينة بدأت تتغير وأخذ التيار الأصولي "السلفي" يسيطر على شوارعها وأزقتها. الا أن نبأ مرض أمه شكل الحافز المباشر للإسراع في اتخاذ قرار المغادرة والعودة إلى المعرة. وقبل وصوله إلى مسقط رأسه جاء النبأ المؤلم. فالأم رحلت عن الدنيا قبل أن يراها.

وصل المعري إلى بلدته يجرجر خيبات الأمل، فهو فشل في الحياة العامة ولم يكسب نفسه. فبغداد تركت في حياته غصة وحفر موت الأم في روحه ذاك الجرح المؤلم. فهو الآن بات ذاك الرجل الضرير/ اليتيم يتخبط في دنياه ويعيش في داخله ذاك الانسجام المتمثل في ظلمة يخترقها أحيانا اللون الأحمر. فاللون الوحيد الذي يتذكره من طفولته هو ذاك الذي يؤرقه ويثير فيه الغضب من كل شيء.

وبين الظلمة والغضب دخل المعري مرحلة جديدة في حياته تغلب فيها التشاؤم وانتصر على كل ما حلم به في فترة شبابه من حب للمعرفة وشوق للتعارف. أسهمت نزعة التشاؤم في تركيب صورة سلبية عن الحياة والدنيا. فاتجه شاعر المعرة إلى نقد عصره، ونقد السياسة، ونقد الحكام، ونقد كل ما يحيط به. فأهل الأرض برأيه يتوزعون على فئتين: الأولى تملك العقل من دون دين، والثانية تملك الدين من دون عقل. وهو كما يرى نفسه يملك العقل والدين معا وفي الآن يفضل المعقول على المنقول. فالمعري في شعره أظهر ما يفكر به. فهو يؤمن بالله ولكنه ضد اليقين. وهذا التعارض سبب له القلق الدائم فاستخدم أحيانا المجاز وتقصد الغموض في أفكاره. فاتهم بالتقية، والباطنية على رغم نقده للحركات الباطنية وملاحظاته السلبية على الدعوة الفاطمية مثلا.

لم تقتصر مواقف المعري السلبية على القضايا الفكرية ونقده للخلط بين الدين والتدين المصطنع وانما تجرأ وانتقد بعض الأحاديث النبوية بذريعة ضعف أسنادها، كذلك انتقد الأئمة والفقهاء وسخر من تعارض المذاهب وعدم اتفاقها على تفسير واحد للكتاب والسنة، فالمعري عكس عالمه الداخلي المنسجم في الظلمة على عالم خارجي شديد التنوع ومتداخل في تعقيداته. وحين فشل في إسقاط عالمه الخاص المتجانس في ظلمته على واقع البشر انقلب على الناس من دون استثناء. فالناس كلهم عميان وهم يعيشون في ظلمة تعطل عليهم الرؤية. وبسبب هذا الإسقاط السلبي بين عالمه الداخلي ومحيطه اتجه المعري إلى شتم من حوله فاتهم الناس بكثرة الغدر وقلة الوفاء. فالانسان برأيه فاسد في طبعه ومنافق ويميل إلى الرياء، والشر عند الإنسان أقوى من الخير.

اتسعت مساحة الظلمة في حياة المعري بعد مغادرته بغداد وانتقلت من داخله إلى عالمه الخارجي الذي يدركه بحواسه ولا يراه. فهو شقي والناس تعيش أيضا حياة الشقاء. وهو فشل في التوفيق بين منهج العقل ونهج الدين كذلك العالم من حوله يعيش أيضا لحظات فشل دائم. فالمعري لم يعد ذاك الإنسان الطامح إلى التغيير بل تحول إلى حطام فقد ثقته بالعالم. وحين يفقد الإنسان تلك الصلة بالعالم التي تقوم على الصدق يفقد تلك الرغبة في التغيير والتواصل مع محيطه.

لعبت الكثير من الأمور دورها في نسج هذه التصورات في مخيلة المعري. فهناك الفشل، وهناك الإحباط، وهناك التعامل السلبي معه، وهناك قلقه الدائم وعدم قدرته على الجمع بين الموروث والمنقول، وهناك تشعب حياته وتعثرها منذ طفولته... وهناك قبيلته المجمعة من أصول متفرقة، وهناك محيطه وظروفه وأخيرا موت الأم.

رحيل الأم شكل نقطة تحول في حياة الشاعر المتعثرة في كل الحالات والأحوال. فهو شب على الوحدة والآن بدأ يشيب على العزلة والانقطاع عن عالمه الخارجي.

الانقطاع عن المحيط، بسبب تضخم سلبيته ورؤيته المتشائمة للعالم، عزز عالم المعري الخاص فبات عالمه الداخلي هو العالم كله. وبسبب تضخم عالمه الخاص اعتمد المعري كثيرا على قوة ذاكرته وسعة معرفته وإحاطته باللغة العربية كأدوات للتعويض عن نقص ذاك الاتصال بالخارج فاندفع يحلق إلى الأعلى انطلاقا من مخيلة خصبة استبدلت وقائع الحياة بصور مختلقة ومبتكرة تقرأ بالمخيلة ما عجز العقل عن تصوره.

قوة المخيلة وتعاظم نفوذها في عالم المعري الخاص دفعته إلى اتخاذ قراره معلنا اعتزال العالم. قرار العزلة جاء ليعلن مغادرة العالم طوعا. وهو جاء بعد تفكير طويل ورحلات كثيرة امتدت إلى حلب وانطاكيا واللاذقية وطرابلس والعودة الى المعرة ثم الذهاب إلى بغداد في زيارتين وأخيرا العودة إلى المعرة. انها رحلة طويلة جاب المعري خلالها المدن وانتهت أخيرا إلى فشل وإحباط وقرار بالعزلة. فالمعري الآن وجد مدينته التي هندسها على مزاجه، وقرر الاستقرار بداخلها والتجوال في شوارعها وأزقتها وآفاقها الرحبة التي لا حدود لها. فمدينة المعري هي مدينة العزلة قرر اختراعها من عالمه الخاص وعدم مشاركة محيطه الخارجي فيها.

ما الذي دفع المعري إلى اتخاذ قرار العزلة في العام 402هـ "1112م"؟ هناك الكثير من الأجوبة وكلها ليست كافية لتفسير السبب وإعطاء شرح مقنع. فالأمور مختلطة وكلها تصب في روافد لا تلتقي في مصب واحد. فالمعري أصلا يعيش حياة الظلمة ولا يرى النور. وهو أيضا أسير عالمه الخاص الذي لا يرى صداه في الخارج ولا يلتقي مع محيطه. فهو أسير ظلمة ولا يرى النور إلا في داخله. فالبيت مظلم والمعرة مظلمة والحياة مظلمة والمدن التي زارها مظلمة والأشياء من حوله مظلمة ومحيطه مظلم. المكان الوحيد الذي ينبض بالحياة هو عالمه الخاص. فالشمس تشرق من داخله لا من الطبيعة. والنور يشع من عالمه فلماذا يقاتل لكسب أنوار لا يراها. فالعالم الخارجي عند المعري معدوم وعالمه الخاص هو الوحيد القادر على التعامل معه بحرية معتمدا على مخيلته وتصور الأشياء كما يريدها لا كما يراها غيره.

قرار المعري كان خطوة فريدة من نوعها ولكنه جاء لينسجم مع ذاك الانسجام الداخلي: الظلمة.

مغادرة المعري العالم كانت لحظة انقلابية في شخصيته الغريبة والمضطربة. فهي عكست عزلة أرادها الشاعر أن تكتسب نورها من الانطواء على الذات والنظرة إلى فوق من الداخل. فهو الآن بات "رهين المحبسين". فهو سجين العمى وسجين البيت. وبين المحبسين حلقت المخيلة عاليا مستندة إلى الزهد في الحياة والذاكرة القوية المجبولة بالمعرفة والتجربة المريرة

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 973 - الخميس 05 مايو 2005م الموافق 26 ربيع الاول 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً