أشار آية الله السيدمحمد حسين فضل الله، إلى أن الإدارة الأميركية تعمل على منع الدول العربية والإسلامية من القيام بأي دور اقليمي، في الوقت الذي تسعى لتقديم نفسها كدولة إقليمية عظمى تتحكم بكل الأدوار التي تحيط بالعراق لترسم هيكلية سياسية جديدة لهذه الأدوار. وأبدى الخشية من أن أميركا التي تتطلع إلى الخروج من هذا المأزق بمغامرة أوسع أو بتحركات عدوانية على أكثر من جبهة ملاصقة للعراق.
جاء ذلك في إطار إجابته على سؤال في ندوته الاسبوعية عن مفهوم الحضارة في الإسلام، وعما إذا كان يؤمن بصدام الحضارات، وفيما يأتي إجابته.
"قد يعتبر البعض أن الحديث عن الحضارة أو صناعة الحضارة، وفي هذه الظروف التي تمر بها المنطقة والعالم، شيئا من الترف الفكري الذي يحاول أن يقفز فوق الوقائع ليرسم مستقبلا ورديا للإنسان، ولكن على رابية من الجماجم البشرية التي هي نتاج يومي لحضارة القتل والتدمير والإبادة التي تجسدها بعض الدوائر الغربية في بلادنا، والتي هي جزء من ثقافة الإلغاء التي تحملها مجموعة عنصرية تقدم نفسها للعالم بقالب استراتيجي على أساس أنها تحمل في جعبتها الحضارية الحل السحري للعالم الثالث، وخصوصا العالم العربي والإسلامي. ولكن الحديث عن الحضارة هو الحديث عن الإنسان الذي أراد الإسلام له أن يكون المحور الأساسي في صناعة التغيير في واقعه ليؤسس من خلال ذلك للتغيير على مستوى العالم وفق القاعدة التي تخاطب الإنسان لتقول له: غير نفسك تغير العالم.
وإذا كانت كلمة حضارة تطلق على مجموعة من أنماط ومظاهر الحياة في مجتمع من المجتمعات، كما قد يحلو للبعض أن يعرفها وفق مقولة تنمية العقل والذوق لتكون مجمل المكاسب العقلية والأدبية والذوقية الناتجة من هذه التنمية، ولتأخذ بعدا ثقافيا يحمل عناصر الامتداد والتفاعل، فإن الإسلام مثل منذ انطلاقه حركة حضارية تنموية كبرى، كما مثل ثورة علمية ومفاهيمية في دعوته إلى إعمال العقل واعتباره الأساس في الحكم على ظواهر الطبيعة أو التحكم فيها لمصلحة الإنسان، وفي حضه على التعلم ليصبح فريضة من الفرائض وتشجيعه للشعوب على التفاعل الحضاري بعضها مع بعض وفق قاعدة "التعارف"، ولأن الاختلاف يغري بالمعرفة، ولأن الضدية لا تقود إلى الاصطراع في شكل حتمي ولازم، بل قد تقود إلى الحوار بين الشعوب الذي يؤسس لحضارة عالمية إنسانية شاملة.
لقد انطلق الإسلام من فكرة المشاركة في عملية البناء الحضاري ليحض الإنسانية كلها على التأسيس لحضارة جامعة وفق منظومة القيم التي ترفع من مستوى الإنسان ماديا وتكنولوجيا وعلميا وروحيا في الوقت عينه، وعلى أساس أن البشر لا يتفاضلون على بعض بألوانهم وأحسابهم وأنسابهم، بل بمقدار ما يجسدون في سلوكهم من التزام حي بالقيم التي ترفع من مستوى الإنسانية. وإذا كان الإسلام يؤمن بالإبداع الحضاري فإنه لم يرد للإنسان أن ينطلق في ذلك على أساس المغامرة التي قد تعرض البشرية لجملة من المخاطر في الحاضر القريب أو في مستقبل أجيالها، لأن الإسلام أراد للخيال العلمي أن يسلك الطرق التي تحفظ للإنسان توازنه وتحمي واقعه ولا تنحرف عن القواعد الأخلاقية العامة التي أساسها حماية الإنسان في حياته وفي حقوقه الفكرية والتعبيرية.
إن الحرية واحدة من المستلزمات الحضارية الكبرى التي لا يمكن لأمة أن تنهض بدونها، والحرية في الإسلام فضلا عن كونها جزءا من تكويننا الديني والعقيدي، بوصفها جزءا لا يتجزأ من عبوديتنا لله، لأن العبودية للطغاة هي شرك بالله، هي أيضا جزء لا يتجزأ من تكويننا الفكري والسياسي وحتى الاقتصادي، بشرط ألا تنحرف عن منظومة القيم وأن ننطلق في نطاق حركة التوازن الداخلي للمجتمع بعيدا عن الاحتكار أو مصادرة حقوق الآخرين.
الفوضى لا تبني الحضارة
وإذا كنا نؤمن بالحرية كأساس في أي بناء حضاري فإننا لا نؤمن بالفوضى، لأن الفوضى لا تصنع حضارة، بل تصنع مزيدا من المآسي والاضطرابات، ولعل المشكلة التي تحاول الإدارة الأميركية الحالية تعميمها وفق مقولة صدام الحضارات، التي تؤمن بها المجموعة الفكرية والسياسية التي تدير دفة هذه الإدارة، تكمن في سعيها إلى تنفيذ استراتيجية الفوضى البناءة أو الخلاقة الموجهة في الأصل إلى عالمنا العربي والإسلامي، لتحدث فيه زلزالا سياسيا يقود إلى مآس سياسية واقتصادية لا تعود بالنفع إلا على الخزينة الأميركية وكذلك على "إسرائيل" بطموحاتها التوسعية وأطماعها التاريخية وسعيها الدائم لإحداث حرائق عرقية ومذهبية في طول العالم العربي والإسلامي وعرضه.
إن الإدارة الأميركية وفي الوقت الذي تعمل على حصار الدول العربية والإسلامية ومنعها من القيام بأي دور إقليمي إلا من خلال ما ترسمه هي لها تسعى لتقديم نفسها كدولة إقليمية عظمى تتحكم بكل الأدوار التي تحيط بالعراق لترسم هيكلية سياسية جديدة لهذه الأدوار نابعة من تخطيطها المسبق لهيكلة المنطقة بالشكل الذي يريح "إسرائيل" ويجعلها الفريق الإقليمي الوحيد المؤهل للقيام بدور واسع، حتى على مستوى الحيثيات العربية الداخلية. ونحن في الوقت الذي نشعر بالخطورة المتزايدة لاستمرار الاحتلال الأميركي للعراق بكل ما ينتج عنه من مآس يومية ومجازر متتالية يدفع ثمنها الشعب العراقي من دم أبنائه ومن إمكاناته الاقتصادية واستقراره السياسي، نخشى أن تكون أميركا تتطلع إلى الخروج من المأزق العراقي الذي لاتزال غارقة فيه، بمغامرة أوسع أو بتحركات عدوانية على أكثر من جبهة أو جهة ملاصقة للعراق.
إن ما تخطط له أميركا سياسيا من خلال الموقع العراقي وما بدأت بناءه أمنيا وعسكريا في العراق من قواعد عسكرية ضخمة يتجاوز البعد العراقي لحركة جيشها ويشكل البداية لطموحات عدوانية يعمل فريق كبير من المحافظين الجدد على ترجمتها في المنطقة بطريقة بهلوانية قد تفضي إلى توسيع دائرة الحرائق العراقية في أكثر من اتجاه. وإننا نحذر من أن الانغماس في هذه اللعبة الأميركية أو محاكاتها أو التمهيد لها من خلال مواقف أو تطلعات سياسية سيقود إلى توسيع نطاق الفوضى التي لن تقود إلى الديمقراطية التي غدت عروس شعر الرئيس الأميركي، بل إلى حالات متصاعدة من الاضطراب السياسي الذي يفضي إلى اضطراب أمني في أكثر من موقع من دون أن يملك أحد تحديد نتائجه أو المنطقة التي قد تصل إليها النيران، لأن أميركا بمحافظيها الجدد وببعض رموز إدارتها تريد إحراق العالم من خلال إحراقها للمنطقة، ونحن نسأل بعض المتحمسين في واقعنا الإسلامي والعربي وحتى اللبناني: هل تتطلعون إلى مشاركة هؤلاء في مهمتهم التلمودية التي لا يملكون هم معرفة آفاقها ونتائجها وانعكاساتها
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 973 - الخميس 05 مايو 2005م الموافق 26 ربيع الاول 1426هـ