العدد 972 - الأربعاء 04 مايو 2005م الموافق 25 ربيع الاول 1426هـ

قراءة في مشروع قانون مكافحة الإرهاب

عبدالله عباس الشملاوي comments [at] alwasatnews.com

-

تتناول هذه القراءة مشروع قانون مكافحة الارهاب في بنود ثلاثة: مبدأ المشروعية الجنائية؛ الرقابة الدستورية على ملاءمة وبواعث التشريع الجنائي؛ ومفهوم الإرهاب في الفقه القانوني المقارن. إضافة إلى التعليق على بعض نصوص المشروع.

أولا: مبدأ المشروعية الجنائية

إن حماية الحرية الفردية مطلب لتحقيق سيادة القانون؛ وهو ما يعرف بمبدأ المشروعية الذي تقوم عليه دولة القانون، بل ان الدولة لا تقوم إلا لتأكيد وجود الحقوق والحريات في مواجهة السلطة العامة. وتجاوب الإنسان مع مجتمعه لا يتحقق إن لم يكن إنسانا حرا يثق بنفسه متمتعا بالكرامة؛ ما ينبغي معه ألا يفضي تدخل الدولة بمؤسساتها الدستورية المختلفة لحماية الصالح الاجتماعي إلى المساس بحرية الفرد؛ ذلك أن حماية الحرية الفردية وتنظيم الدولة للصالح الاجتماعي يجب أن يعملا معا؛ ما يتطلب إقامة التوازن بين الحرية والسلطة، ومن هنا نشأ مبدأ المشروعية الجنائية، أو ما يعرفه الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، وكل دسـاتير العـالم: بقاعدة "لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص". ويستند هذا إلى حصر مصادر التجريم والعقاب وثباتها بنصوص قانونية يلتزم القاضي بتطبيقها.

وعرفت البشرية هذا المبدأ، لكنها ظلت في الغالب معرفة لفظية، إذ كثيرا ما ينحرف التشريع عن الغاية التي شرع من أجلها، ألا وهي كفالة الممارسة الطبيعية للحقوق والحريات الفردية، فيصادر هذه الحقوق لصالح أنظمة شمولية تستخدم القانون لتحقيق غاياتها في الاستحواذ والتسلط، مع أن أصل المبدأ مستند إلى ضرورة توافق النصوص المثبتة للجرائم والعقوبات المقررة لها مع حماية الحقوق والحريات الفردية على نحو يكفل الممارسات الطبيعية لحقوق الأفراد وحرياتهم.

ومن نتائج مبدأ المشروعية، أن يلتزم المشرع بالوضوح والبيان عند صوغه للنصوص القانونية من حيث تحديده لقواعد التجريم، كبيانه لأركان الجريمة وطبيعة النشاط الذي تتشكل منه، وكذلك من جهة تحديد الجزاء المقرر للجريمة من حيث نوعه؛ لان عدم التزام المشرع لهذا القيد يفتح الباب واسعا للاجتهاد والخروج عن معنى النص وفحواه؛ ما يفضي إلى الخروج عن مبدأ الشرعية والاعتداء على الحرية الفردية، وتغدو أهمية هذا القيد عندما يتصدى المشرع لتعديل النصوص بالتجريم والعقاب؛ إذ يصبح الالتزام بالوضوح والبيان أكثر أهمية حتى يكون المخاطبون بتلك النصوص على علم حقيقي بمحتواها، بوصف أن هذا هو هدف الشرعية في قانون العقوبات، وهو ما عبرت عنه المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، بأنه لا يجوز أن يكون نفاذ النص مرتبطا بمعايير شخصية أو أن تخالفها الأهواء بل أن تصاغ بشكل يحول دون تباين الآراء بشأن مقاصدها.

وتقول المحكمة الدستورية المصرية في حكم دستوري لها في القضية رقم 22/8 بتاريخ 22 يناير/ كانون الثاني 92: إن الأفعال التي يؤثمها قانون العقوبات يجب أن تكون محددة بصورة قاطعة وان تكون جلية واضحة، وإذا شاب النص الجنائي غموض أو إبهام وجب على من يفسره أن يتقيد بدلالة الألفاظ من خلال العلة التي تعرض لها المشرع في الجريمة والعقاب، فإذا كان اللفظ هو نقطة البداية، فإن قصد المشرع هو نقطة الوصول، واضعا نصب عينيه مبدأ أن الشك يفسر لصالح المتهم.

ومن المبادئ المقررة في الفقه الجنائي المقارن أنه لا يلاحق شخص جنائيا إلا إذا دخل في مرحلة تنفيذ الجريمة، فقرار شخص بأن يسرق أو يزور أمر خارج التجريم، ومن ثم خارج العقاب حتى لو أعد عدته لما فكر فيه، وهو ما يعرف قانونا بالأعمال التحضيرية، فلو اشترى مسدسا وتدرب على إطلاق النار، وتربص لعدوه، ثم انصرف، فلا تثريب عليه، وهو ما يعرف قانونا بالعدول الطوعي. وقد عبر عن ذلك الامام علي "ع" بقوله: "لا قصاص إلا بعد الجناية". أما في مادة الإجرام السياسي أو ما يعرف بجرائم الخطر فإن المشرع ذهب مذهبا آخر، فعاقب على التحضير، على أساس أنه ليس من الحكمة أن ينتظر الحاكم حتى يباشر من أعد للجريمة تنفيذها؛ لأنه قد يسارع في التنفيذ ويضرب وينجح في هدفه، وخصوصا أن الانقلابات والثورات تبدأ إجراما في ظل القانون، ثم إذا نجحت حصلت على غطاء المشروعية بسبب النجاح، والاستحواذ بالسلطة وصارت مخالفتها جريمة، "ذلك أن للسياسة منطقا لا يخضع للمنطق". ولقد أصبح الإجرام السياسي يرتدي طابعا أخطر كثيرا مما مضى، وبعض جرائمه تعرض سلامة الأمة كلها لخطر محدق، وهذا الجانب من الإجرام يجب أن يعاقب بحزم، على أن تتم هذه المعاقبة وفق القانون. ثم ان وجود حكم مستقر وعدالة اجتماعية يجد فيها الإنسان ما يؤمن له ضروريات الحياة وقسطا متزايدا من كمالياتها، كفيلا بخنق بذور الإجرام السياسي من المهد، أو المساعدة على الإقلال من ارتكابه إلى أبعد حد. ويهدف القانون الجنائي إلى إرساء السلام وحماية النظام، ووسيلته إلى ذلك العقوبات الرادعة. والغاية القصوى من التجريم والمعاقبة هي حماية الإنسان كفرد والناس كأفراد، من خلال الموازنة بين المصالح المتعارضة، فعمدت أوروبا الشرقية إلى تعديل قوانينها العقابية لتتواءم مع تحولها من النظام الشمولي إلى الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، ولكن قد تستجد ظروف استثنائية فيلزم أن يتدخل المشرع لضبط السلوك الاجتماعي بتشريع استثنائي، وحتى يتحقق له ذلك لابد من أن ترتكز الظروف الاستثنائية لأساس فلسفي ودستوري يجيز التصرف بطريقة تجافي القواعد الواجب اتباعها في الظروف الاعتيادية. الرقابة الدستورية على التشريع الجنائي

لقد عني المجلس الدستوري في فرنسا مند العام 70 بإقامة مبادئ سلطات الأزمة بما يتفق مع الدستور، وأكد أن واجب الدولة هو كفالة احترام مؤسسات الدولة واستمرار حياة الأمة وضمان حقوق وحريات المواطن، وتقع المهمات الدستورية خصوصا على السلطة التشريعية وعلى رأس الدولة وعلى الحكومة، كل في حدود اختصاصه، وفى سبيل ذلك يكون للمشرع في حال الضرورة أن يجري توازنا ضروريا بين احترام وحماية النظام العام الذي لا يمكن من دونه كفالة الحريات وبين ممارسة الحريات، بشكل لا حيف فيه. وطرح الفقيه القانوني عبد الرزاق السنهوري نظرية في نطاق الرقابة على دستورية القوانين؛ إذ يرى وجوب النظر فيما إذا كان التشريع يخالف روح الدستور، أي يعتوره عيب الانحراف في استعمال السلطة التشريعية. وأثارت هذه النظرية لغطا كثيرا في الفقه الدستوري بين مؤيد ومعارض، ويمكن التعرض لبعض ملامح هذه النظرية الرائدة. فقد أسس العلامة السنهوري نظريته على القياس، إذ قاس فكرة الانحراف التشريعي على فكرة الانحراف الإداري، ورتب عليه سلطة القضاء الدستوري في إلغاء القانون الذي يخرج عن روح الدستور. ومعياره في ذلك المصلحة العامة التي يجب أن يتوخاها المشرع دائما في تشريعاته، وكذلك الغاية المخصصة المرسومة لتشريع معين، وضرب لذلك فروضا منها:

كفالة الحريات والحقوق العامة في حدودها الطبيعية: وخصوصا بالنسبة إلى الحريات المطلقة كحرية الاعتقاد وعدم جواز إبعاد المواطنين، أو تسليم اللاجئين السياسيين.

احترام الحقوق المكتسبة وعدم المساس بها في غير ضرورة أو من غير تعويض.

مخالفة التشريع لمبادئ الدستور العليا والروح التي تهيمن على نصوصه، وهو ما يمكن أن يستخلص من مجموع نصوص الدستور والفلسفة التي أقيم عليها، كالمساس باستقلال القضاء أو بحق التقاضي.

قانون الإرهاب وإطلاق يد السلطة

وهنا يثور سؤال مفاده: هل يجوز للقضاء الدستوري رقابة مدى ضرورة التشريع، أو ملاءمته، أو بواعثه؟

ونجد الإجابة في أنه استقر القضاء الدستوري المصري على أنه لا يجوز نظر مدى ضرورة التشريع؛ لأن في ذلك تعديا على اختصاص صاحب السلطة الأصيل في التشريع، وهي السلطة التشريعية المنتخبة، ويخضع لتقديراتها وحدها من دون رقابة من القضاء الدستوري في ذلك، وكذلك الحال مع ملاءمة التشريع؛ إلا أن ذلك لا يعني إطلاق يد السلطة التشريعية في التشريع من دون التقيد بالحدود والضوابط التي نص عليها الدستور، كأن يتخذ المشرع من التشريع وسيلة إلى حظر الحق أو إهداره، أو التعدي على جوهره أو النيل منه، وهو ما يمكن تطبيقه على التشدد والصرامة الواردة في ثنايا مشروع قانون الإرهاب محل حديثنا، فإن أقل ما يقدره هو عيب محرم الملائمة والتطويح بالحقوق من خلال الصياغة الفضفاضة لنصوصه، وهو عيب في ذاته ينافي حسن الصناعة التشريعية حتى أنه يمكن القول ان من أعد المسودة ليس صائغا بل ربما كان حدادا، بل ان المحكمة الدستورية العليا في مصر نظرت في مدى تجاوز التشريع للحدود المنطقية في الجزاءات ومدى ملاءمتها مع الفعل المؤثم.

التشدد والتشنج في قانون الإرهاب

ولقد كان الفكر القانوني متسامحا مع المجرم السياسي على أساس أن جريمته وليدة دافع شريف؛ ولهذا لم تكن تطبق عقوبة الإعدام إلا على المجرم العادي، فلا إعدام لمجرم سياسي، بل كان يعتقل في قلعة، أي لا تطبق عليه حتى عقوبة الأشغال الشاقة كما تقرر ذلك في ايطاليا العام .1850 وعلق الفقه على عقوبة الاعتقال في القلعة بأنه تدبير للأمن أكثر منه إقامة للعدل؛ لأن واضع ذلك القانون أراد أن يتخلص من خصومة السياسيين الذين يحدثون الاضطرابات، وليحمل الناس على نسيانهم أبعدهم عن الساحة العامة، وليعذبهم نفسيا؛ لأن الحنين إلى الوطن أشق على النفس من العمل الشاق.

ثم جاءت الفاشية على يد موسوليني ووضعت سنة 1921 قانونا ذا مذهب سياسي هو الفاشية وطوحت بالميزات التي تعطى للمجرم السياسي؛ على أساس أن للدولة حياة مستقلة أسمى من حياة الأفراد، وأنه لا وجود للفرد إلا داخل الدولة وأنه مرتبط بمصالحها وضروراتها؛ ولذلك لابد من تضييق رقعة الحرية كلما تلبست أشكالا أكثر تعقيدا. وقرر الدوتشي موسوليني حرمان المجرم السياسي من الملجأ، وابتدع جرائم كالازدراء بالأمة الإيطالية وعلمها أو أي شعار لها ورفض تقادم الجرم السياسي، وقرر معاقبة من لا يخبر السلطة بجرم موجه ضد شخصية الدولة، باعتبار افتراض تضامن كل فرد مع الدولة، ولتضامنه ذاك يجب أن يكون رقيبا على الناس. وتسلل بعض هذا التشدد الفاشي إلى فرنسا الديمقراطية، فجاءت جرائم بتعريفات فضفاضة، كالاعتداء على السلامة والوحدة الوطنية، والمساس بمصلحة البلاد وكل ما من شأنه الاضرار بالشعب.

وتسلل ذلك النفس الفاشي إلى التشريعات العربية حين أخذت مصر قانونها أيام حكومة صدقي من فرنسا وايطاليا، ومن ثم سرت تلك العدوى إلى باقي القوانين العربية وتشددت في قوانينها العقابية كما يظهر ذلك في القانون المصري، والبحريني. ويجد المطلع على مسودة قانون الإرهاب درجة التشدد التي تصل أحيانا إلى حد التشنج والانفصال الذي يظهر في سائر نصوص المشروع من حيث التعميم أو الإسراف في العقاب، أو في القيود على حرية التقدير لدى القاضي، وهو ما سنتعرض له ببعض التفصيل أدناه.

ويبحث هذا الفكر القانوني الإرهاب ضمن الإجرام السياسي باعتباره جرما يقصد به إثارة الذعر والإخافة للوصول إلى هدف أو غرض سياسي، فهو نشاط يقصد مباشرة إلى بث الذعر والإخافة، ويهدف إلى تغيير أوضاع الحكم رأسا على عقب، ويعرف الفقيه الفرنسي الوازي الإرهاب السياسي بأنه قلب الأوضاع القانونية والاقتصادية التي تقوم عليها أسس الدولة. وأول محاكم طبقت العقوبات على الإرهاب كانت محكمة روبسبير في فرنسا سنة 1793 وصدرت أحكام بالإعدام في 49 يوما على 1380 شخصا ونفذت فورا. وصدر بيان الإرهاب الفوضوي في لندن العام 1890 وسمي بالإنذار، وقال أصحابه ان الوسيلة التي يجب أن تستخدم لتحقيق أهدافهم تعتمد على السرقة والقتل والحريق لإرهاب المجتمع وتمزيق أوصال السلطة. وكان رد الفعل الحكومي على حركة الفوضويين شديدا فنادوا بدورهم بأن الموت بالموت، وأصيبت الحكومة بالرهبة بعد نسف قطار القيصر في روسيا أكثر من مرة وتدمير جانب من قصره. وجاءت أعمال مؤتمر جنيف ثم كوبنهاجن العام ،1935 وكانت مشحونة بالحقد إثر اغتيال ملك يوغسلافيا الأسكندر الأول ووزير خارجية فرنسا المسيو بارتور بأيدي الإرهابيين الصرب فاعتبرت إرهابا الأفعال التي من شأنها أن تحدث خطرا عاما أو حال إرهاب إذا كان من شأنها أن تحدث اضطرابا في العلاقات الدولية وخصوصا أن تعرض السلم للخطر.

وعرف قانونا العقوبات السوري واللبناني الأعمال الإرهابية بأنها "جميع الأفعال التي ترمي إلى إيجاد حال ذعر، وترتكب بوسائل كالأدوات المتفجرة، والمواد الملتهبة، والمنتجات السامة أو المحترقة، والعوامل الوبائية أو الجرثومية التي من شأنها أن تحدث خطرا عاما". وعاقبا على المؤامرة التي يقصد منها ارتكاب عمل أو أعمال إرهاب بالأشغال الشاقة المؤقتة، كما عاقبا على ارتكاب كل عمل إرهابي بالأشغال خمس سنوات على الأقل، وإذا أفضى العمل الإرهابي إلى تخريب ولو جزئي، في بناية عامة أو مؤسسة صناعية أو التعطيل في سبل المخابرات والمواصلات والنقل، فإن الفاعل يعاقب بالأشغال المؤبدة، أما إذا أفضى الفعل إلى موت إنسان، أو هدم البناء بعضه أو كله، وفيه شخص أو عدة أشخاص فإن العقوبة الإعدام. وشدد القانون على أن الجمعيات التي تنشأ لتغيير كيان الدولة الاقتصادي أو الاجتماعي أو أوضاع المجتمع الأساسي بإحدى الوسائل الإرهابية، فعقابها الحل، كما عاقب المنتمين إليها بالأشغال الشاقة المؤقتة، ونظر نظرة مقت إلى المؤسسين والمديرين لتلك الجمعيات، فجعل الحد الأدنى لعقوباتهم الأشغال الشاقة المؤقتة، ولكنه شجع على التوبة، فأعفى العضو الذي يخبر السلطات قبل البدء بأي فعل مهيأ للتنفيذ، وإذا تم الإخبار بعد التنفيذ استفاد المخبر من العذر المخفف، على ألا يستفيد المحرض بأي حال.

خطورة قانون أمن الدولة

وتضمن قانون العقوبات البحريني الصادر بمرسوم أميري برقم 15 لسنة 76 نصا متعلقا بأمن الدولة الخارجي والداخلي في المواد من 112 حتى ،185 وحدد الجرائم الماسة بأمن الدولة الخارجي والداخلي وكيفية التعاطي مع مرتكبيها وكان ذلك القانون من السعة والشمولية في العبارات بحيث جعله خطرا محدقا بالسلوك الإنساني متى شاءت السلطة التنفيذية ذلك، كما وأن ذلك القانون ليس محل رضا من الباحثين، فهو وليد تراث فاشي، وكان موضوع مجادلة في مجلس النواب أبان عرض مشروع القانون عليهم.

وسنتعرض بشيء من التعليق، على بعض النصوص الواردة بمشروع قانون الإرهاب المحال للبرلمان البحريني من الحكومة بصفة مستعجلة، على النحو الآتي:

رابعا: التعليق على مشروع قانون مكافحة الإرهاب: تضمن مشروع قانون مكافحة الإرهاب ديباجة وخمسا وثلاثين مادة، وأرسلته الحكومة لمجلس النواب لينظر على سبيل الاستعجال، وسنمر على بعض نصوصه بشيء من التعليق السريع.

نحن حمد بن عيسى آل خليفة ملك مملكة البحرين. بعد الإطلاع على الدستور، وعلى قانون العقوبات الصادر بالمرسوم بقانون رقم "15" لسنة 1976 وتعديلاته، وعلى المرسوم بقانون رقم "16" لسنة 1976 في شأن المفرقعات والأسلحة والذخائر المعدل بالمرسوم بقانون رقم "6" لسنة 1996 وعلى المرسوم بقانون رقم "21" لسنة 1996 بشأن البيئة، المعدل بالمرسوم بقانون رقم "8" لسنة 1997 وعلى المرسوم بقانون رقم "15" لسنة 1998 بالتصديق على الاتفاق العربي لمكافحة الإرهاب، وعلى المرسوم بقانون رقم "4" لسنة 2001 بشأن حظر ومكافحة غسل الأموال، وعلى المرسوم بقانون رقم "26" لسنة 2002 بالموافقة على الانضمام إلى معاهدة منظمة المؤتمر الإسلامي لمكافحة الإرهاب الدولي، وعلى قانون السلطة القضائية الصادر بالمرسوم بقانون رقم "42" لسنة 2002 وعلى قانون الإجراءات الجنائية الصادر بالمرسوم بقانون رقم "46" لسنة 2002 وعلى القانون رقم "9" لسنة 2004 بالموافقة على انضمام مملكة البحرين للاتفاق الدولي لقمع الهجمات الإرهابية بالقنابل، أقر مجلس الشورى ومجلس النواب الآتي نصه، وقد صدقنا عليه وأصدرناه:

التعليق الأول: تكفي المنظومة القانونية المتقدم عرضها في ديباجة المشروع لنظم أي نشاط إجرامي، دونما حاجة لإصدار هذا القانون؛ ولاسيما بعد تصديق البحرين على المعاهدات الإقليمية والدولية لمكافحة الإرهاب، وصيرورة تلك المعاهدات جزءا من النسيج القانوني للبحرين؛ ومن ثم يغدو إصدار هذا القانون بصورته المعروضة على مجلس النواب، أمرا لا ضرورة له، بل من الضروري عدم صدوره لما فيه من تشدد غير محمود في العقوبات وغياب الصناعة التشريعية عنه. وكان يمكن التماس العذر لصناع القرار في بعض الدول المجاورة التي وقعت فيها حوادث إرهابية بشكل يومي، أما في البحرين، وهي بمنجاة من الإرهاب والحمد لله، فلا نجاوز الحق إن قلنا إن هذا القانون يخلق إرهابا للناس، من جهة سعة عباراته وغموض مصطلحاته كحديثه عن المساس بالوحدة الوطنية أو إحداث كارثة أو إثارة أفكار متطرفة أو إثارة الفتنة استنادا إلى دلائل. وهي عبارة أكثر غموضا من العبارات الأخرى، ومضاعفة العقوبات من المؤقت إلى المؤبد، وتكرار ورود عقوبة الإعدام في أكثر من موضع على رغم أن عقوبة الإعدام من المسائل التي اصطرعت فيها الفلسفات والعواطف والمعتقدات، إذ كانت هذه العقوبة كالسيف المسلط في يد الدولة ترهب به معارضيها وأعداءها. ومارست البشرية الإعدام منذ الأزل لتسكين روع ذوي المقتول، ولكن لا يذهب بنا الخيال بعيدا، فإن هذه العقوبة لم تطبق بحق القتلة إلا بعد مرحلة طويلة من التطور الحضاري. فطبقها الفراعنة على من لم يفضح مؤامرة علم بها ضد الفرعون، ثم ألغاها الفرعون ساباكوت سنة 703 ق م، واستبدلها بالأشغال الشاقة، وألغيت في فرنسا العام ،1791 لأنها قتل منظم، فالمجرم الذي يرتكب جريمة لا يعلم أحد تحت أي دوافع اندفاعية أو مرضية ارتكبها، في حين أن المجتمع يقرر إعدام القاتل بدم وأعصاب باردين، من دون أن تمحى الجريمة. وبالتالي فلا يجوز لمجتمع متمدن أن ينزل إلى مستوى القتلة، وخصوصا انه لم يثبت أن بقاء عقوبة الإعدام يؤدي لقلة عدد الجرائم، بل أن النمسا زادت فيها الجريمة لما أعادت تلك العقوبة العام ،1934 لأنها كما يعبر النائب العام الأميركي رمزي كلارك أن عقوبة الإعدام توقع على مفهوم التكفير وحده ولا تسمح بتأهيل المجرم؛ وبالتالي فهي لا تصلح لمجتمع متمدن، ثم أن القاضي مهما احتاط أو مهما كانت له من قدرات، في قياس درجة الخطأ فلن يصل عين اليقين؛ لأن الخطأ يبقى مستقرا في النفس ولا يدركه إلا الله سبحانه وتعالى.

ولو كان الإعدام عقوبة زاجرة ورادعة لأتت ثمارها، وهي تطبق منذ أيام البشرية الأولى، ويعيبها كذلك أنها غالبا، إن لم يكن دائما، موجهة ضد الفقراء، فإن وقع في قبضة العدالة أحد ذوي النفوذ، تحالفت الإمكانات المادية والاجتماعية والإعلامية لمعاونته بمشاهير المحامين الذين يعجز الضعفاء عن كلفتهم. ألم تقل الفرنسية مدام رولان وهي تصعد إلى المقصلة في عهد الثورة الفرنسية: "يريد الشعب الخبز فيقدمون له المقصلة"!

التعليق الثاني: عاقبت المادة "5" من مشروع قانون مكافحة الإرهاب بالسجن المؤبد كل من أحدث عمدا كارثة بأية وسيلة من وسائل النقل. ومن العسير على الباحث أن يضع حدا لكلمة كارثة أو أن يبين مصاديقها، وبالتالي يمكن أن ينسب لكل من يراد به شرا أنه أحدث كارثة، ولاشك أن هذا الأمر كارثة في ذاته!

التعليق الثالث: تميزت نصوص مشروع هذا القانون بأنها قيدت حركة القاضي حين ألزمته بالحكم بالسجن أو الحبس والغرامة، وليس كما هو المعتاد في التشريعات الجنائية المقارنة "والتي تصدر في ظروف اعتيادية"، إذ تخير القاضي بين إحدى العقوبتين كما تعطيه سلطة الحكم بهما مجتمعتين إذا رأى ثمة مقتضى للتشدد. ولقد درج القضاء المقارن على التخفف في الحكم بالبراءة كلما ضيق المشرع على القضاء حركته على أساس قاعدة أن يفلت من العقاب ألف مجرم خير من أن يعاقب بريء.

التعليق الرابع: جرمت الفقرة الثانية من المادة "12" من المشروع كل من حاز أو أحرز بالذات أو بالواسطة مطبوعا يتضمن الترويج أو التحبيذ إذا كان معدا للتوزيع أو لإطلاع الغير عليه، وكل من حاز أو أحرز أية وسيلة من وسائل الطبع أو التسجيل أو العلانية أيا كان نوعها، استعملت أو أعدت للاستعمال ولو بصفة وقتية لطبع أو تسجيل أو إذاعة ذلك الترويج أو التحبيذ. وتكفي هذه المادة لاعتقال آلاف الناس "لو شاءت السلطة ذلك" بأن يوزع أحد منشورا فيه تعرض للدولة، ثم تكبس الشرطة المكان فتجد عند غالبية المصلين نسخة عن المنشور، فيساقون إلى المعتقل جميعا!

التعليق الخامس: أسندت المادة "30" من المشروع لمأمور الضبط القضائي إذا توافرت دلائل كافية على اتهام شخص بارتكاب إحدى الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون أو في حال التلبس بها، أن يقبض على المتهم لمدة لا تجاوز 14 يوما، وعند التقاضي له أن يطلب من النيابة العامة أن تأذن له بمد مدة القبض، وللنيابة العامة في هذه الحال ولأمر تستلزمه ضرورة التحقيق وصيانة أمن المجتمع أن تأذن باستمرار القبض على المتهم لمدة لا تجاوز 14 يوما أخرى.

ويجب على مأمور الضبط القضائي أن يسمع أقوال المتهم المقبوض عليه ويرسله إلى النيابة العامة بعد انتهاء المدة المشار إليها في الفقرة السابقة. ويجب على النيابة العامة أن تستجوبه في ظرف ثلاثة أيام من عرضه عليها، ثم تأمر بحبسه احتياطيا أو إطلاق سراحه.

ومعلوم أن مأمور الضبط القضائي هو جهاز الأمن الوطني "أمن الدولة"، كما يظهر ذلك من القرار الوزاري رقم "2" لسنة 2003 الصادر عن وزير العدل بناء على قانون الإجراءات الجنائية رقم "46" لسنة ،2002 إذ يقرر "يخول أعضاء وأفراد جهاز الأمن الوطني والمنتدبون للعمل به صفة مأمورة الضبط القضائي بالنسبة لجميع الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات الصادر بالمرسوم بقانون رقم " 15" لسنة 1976 والقوانين المعدلة والجرائم المنصوص عليها في المرسوم بقانون رقم " 16" لسنة 1976 بشأن المفرقعات والأسلحة والذخائر، وكذا جميع الجرائم المنصوص عليها في القوانين الجنائية الخاصة، وذلك في جميع أنحاء المملكة".

ولقد خول هذا النص سلطة الضبط القضائي "الأمن الوطني" القبض ولمدة لا تجاوز 14 يوما قابلة للمد بإذن من النيابة على من توافرت بحقه دلائل تكفي لاتهامه بارتكاب إحدى الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون، أو في أي قانون جنائي آخر ساري المفعول في البحرين. ومعلوم أن كلمة دلائل من السعة بحيث تطلق يد الضبط القضائي في اعتقال من يشاء، وهي العبارة التي كانت سائدة في نصوص المرسوم بقانون بشأن تدابير أمن الدولة الذي أطاح بالتجربة النيابية في مطلع السبعينات وأدخل البحرين في نفق مظلم زهاء ربع قرن. ونرى العبارة ذاتها تتكرر في مشروع القانون هذا. ولا يفوتنا أن ننوه إلى أن النيابة العامة - وهي تستجوب المقبوض عليه من قبل الضبط القضائي - لها أن تأمر بحسبه احتياطيا من دون حد وفقا للمادة "149" من قانون الإجراءات الجنائية باعتبارها من الجرائم الماسة بأمن الدولة.

التعليق السادس: أسند المشروع للنائب العام في المادة "34" وعند الضرورة إذا قامت دلائل على جدية الاتهام في أي من الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون، أن يأمر بمنع المتهم من السفر أثناء التحقيق، أو أن يأمر مؤقتا بمنعه من التصرف في أمواله أو إدارتها أو غير ذلك من الإجراءات التحفظية. ويجوز أن يشمل أمر المنع من التصرف أو الإدارة، أموال زوج المتهم وأولاده القصر، إذا ثبت أن هذه الأموال قد آلت إليهم من المتهم. ويجب أن يشتمل أمر المنع من الإدارة على تعيين من يدير الأموال المتحفظ عليها، وعلى النائب العام في جميع الأحوال أن يعرض أمر المنع على المحكمة الكبرى الجنائية خلال 7 أيام على الأكثر من تاريخ صدوره، بطلب الحكم بالمنع من التصرف والإدارة وإلا اعتبر الأمر كأن لم يكن.

ويبدو من هذا النص أن للنيابة العامة أن تصدر بناء على الدلائل ما يشبه حكما بالموت المدني على من قامت بشأنه هذه الدلائل، ولا تقف سلطة النيابة عند شخص المتهم بل تسري إلى أمواله وأموال أزواجه وأموال أولاده، خلافا لقوله تعالى: "لا تضار والدة بولدها" "البقرة: 233"، وخصوصا مع عدم تحديد كيفية الثبوت بالنسبة لأموال الزوج، الأولاد وهل هي بحكم قضائي أم بدلائل.

الخــلاصة

إذا أتى تشريع يدين على الدلائل والشبهات، متشدد إلى حد التشنج، فضفاض الصوغ إلى حد الغموض، موغلا في مضاعفة الحدود القصوى للعقوبات السالبة للحرية وفي تقرير حكم الإعدام في أكثر نصوصه؛ فان ذلك يجعله متخلفا عن ركب الحضارة والتمدن القانوني، وخصوصا ان عقوبة الإعدام قد ألغاها الفراعنة سنة 703 ق.م، فإذا أضفنا لها 2005 سنوات، فنكون متأخرين عن مسيرة النظم القانونية العريقة بألفين وسبعمئة سنة فقط، وذلك أمر لا يدعو للفخار ويجعل الإنسان منتظرا صدور هذا القانون وهو يتذكر قول الشاعر: في فمي ماء وهل ينطق من في فيه ماء

العدد 972 - الأربعاء 04 مايو 2005م الموافق 25 ربيع الاول 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً