الجواهري مات بعيدا عن العراق وكان يشتاق إلى نقيق الضفادع لأنه يذكره بدجلة. كنت في الغربة انام وتحت وسادتي ثلاثة دواوين اساسية: ديوان المتنبي وديوان الجواهري وديوان نزار قباني، وكنت اسمع اشرطة مظفر النواب وأحمد مطر، وكنت احيانا امكث ثلاث ساعات متنقلا بين هذه الدواوين ودواوين لشعراء آخرين إذ كنت أجد في الشعر متنفسا للخروج من خناق الغربة. وفي النثر كانت تسليني ادبيات جبران والمنفلوطي واشد ما شدني في الثاني كتاب العبرات وماجدولين والنظرات. وجدت الجواهري النفس المتبقي للمتنبي في القرن العشرين لكني أرى لشعر نزار السياسي شعرا شعبيا امسك الكلمة من ناصيتها وجعلها خبزا شعبيا يتذوقه الجميع وهو من السهل الممتنع. حقيقة اخاف على اللغة من الاندثار إذ بدأت اللغة والشعر يضعفان. قرأت لادونيس فهربتني رمزيته، اغلقت ديوانه يوم فتحته ولم اعد إليه. الشعر بلا تفعيلة وبلا وزن وبلا قافية يموت هل قرأتم قصيدة الجواهري "اخي جعفر"؟ دعونا نقرأ بعضها:

اتعلم أم انت لا تعلم

بأن جراح الضحايا فم

فم ليس كالمدعي قولة

وليس كآخر يسترحم

يسخر الجواهري من الشعوب التي تنام على الاحلام في قصيدة "تنويمة الجياع" قائلا:

نامي جياع الشعب نامي

حرستك آلهة الطعام

نامي فإن لم تشبعي

من يقظة فمن المنام

نامي زبد الوعود

يداف في عسل الكلام

نامي تزرك عرائس الاحلام في جنح الظلام

تتنوري قرص الرغيف

كدورة البدر التمام

وترى زرائبك الفساح

مبلطات بالرخام

وعرف عن الجواهري مدح الرؤساء والزعماء العرب. قال في حافظ الأسد:

سلاما أيها الأسد

سلمت ويسلم البلد

وتسلم أمة فخرت

بانك فخر من تلد

ويا نسرا على شرف

بعش النسر ينفرد.

ومدح عبدالناصر قائلا:

اكبرت يومك ان يكون رثاء

الخالدون عهدتهم احياء

قالوا: أب بر فكانت أمة

ألفا ووحدك كنت فيها الباء

ثم جاء إلى إيران وهناك التقى بالسيد الخامنئي وقال فيه قصيدة شعر:

سيدي أيها الأعز الأجل

أنت ذو منة وانت المذل

يعجز الحرف إن يوفي عظيما

كل ما زاد عن سواه يقل

لك في السلم منبر لا يبارى

لك في الحرب مضرب لا يفل

لك أهل فوق الذرى ومحل

لك بعد في المكرمات وقبل

لك في ذمة الإله يمين

يد من مسها بسوء تشل

فاغتفر لي ما زل من ذكرياتي

يا عطوفا على خطى من يزل

ثم مباشرة خرج إلى الأردن وهناك القى قصيدة في مدح الملك حسين اسماها "اسعف فمي" سأتناولها مفصلا في احدى استراحات الأربعاء المقبلة. ولكن على رغم ذلك نجد هؤلاء الشعراء وغيرهم احيانا يقسون على انفسهم عندما يهجون بعضهم واحيانا يقسو عليهم الزمن هم وكثيرون من الأدباء. محمد حسنين هيكل اخرجه السادات بجرة قلم من رئاسة صحيفة "الأهرام". محمود العقاد تعرض للسجن بتهمة أنه هدد بسحق رأس الملك فؤاد في مجلس النواب الكاتب الساخر محمود السعدني صاحب كتيبات "زمن الحمير وعودة الحمار" سجن في عهد جمال عبدالناصر بتهمة انتمائه للتنظيم الشيوعي المصري ومن المفارقات أن يسجن في عهد السادات باعتباره احد اعضاء مراكز القوى في عهد عبدالناصر. أحمد فؤاد نجم سجن في عهد عبدالناصر بسبب قصائده ضد الرئيس واعتقل في فترة السادات لأنه كتب ضد عملية السلام، وسجن مصطفى أمين عشر سنوات في عهد عبدالناصر بتهمة التجسس لصالح المخابرات الاميركية وعذبته زبانية صلاح نصر مثل حمزة البسيوني. هل تذكرون قصيدة الشيخ القرضاوي في نونيته التي يذكر فيها أسماء هذه الزبانية؟ وإلى اليوم تجد اتهامات توجه إلى هيكل انه كان وراء تأميم الصحافة في عهد عبدالناصر وهو وراء اعتقال مصطفى أمين. الغريب انني عندما اتابع معارك الادباء والصحافيين والمفكرين اصاب بالدهشة وخصوصا اذا خرجت عن السيطرة. معركة بين شوقي وحافظ ابراهيم وراح الثاني يهجو الأول:

يقولون الشوق نار ولوعة

ومالي ارى شوقي اليوم باردا.

هناك معركة وقعت بين خالد محمد خالد بسبب كتابه "من هنا نبدأ" فرد عليه محمد الغزالي "من هنا نعلم". وتم التراشق في الصحف. معارك طاحنة بين العقاد وطه حسين وأيضا بين خالد محمد خالد ويوسف ادريس. طبعا جهاد الفاضل بعد أن كان يمدح نزار قباني راح يسبه ويشتمه في كتابه "نزار قباني الوجه الآخر" وقال عنه انه نهم في المال ونرجسي ومغرور وبخيل و... أما عادل حمودة فقد شن هجوما على الشاعر الشعبي أحمد فؤاد نجم... حقيقة أوجع قلبي لاني شعرت في الهجوم خروجا على اللباقة لكن نجم رد عليه بكتاب ذكر فيه "تموت الحرة ولا تأكل بثدييها". لا اريد الاسترسال في طرح المعارك الادبية والفكرية ولكنها اشارة لما سأذكره لاحقا.

العرب دائما في خصام وتأتي نظرية الغلو في الحب والبغض