أعجبني جدا أداء وزير الكهرباء مطلع هذا العام عند زيارته سماهيج، فمنذ أن لاحت علامات الحر جمع الصحافيين وقال لهم: "صراحة يا جماعة ما عندنا ضمان ألا تنقطع الكهرباء هذا العام" وكفى الله المؤمنين القتال. وهو درس بليغ استوعبه الوزير جراء تجربته المريرة العام الماضي، إذ أراد أن يطمئن الناس في بداية موسم القيظ بعدم انقطاع الكهرباء، فإذا بها تنقطع في اليوم التالي لتصريحه، وعندها جمع بعض الزملاء ليلقي عليهم عظة ليلة الأحد، مبتدئا بالآية الكريمة: "أما الزبد فيذهب جفاء"، ففتح بذلك على نفسه عش الزنابير من دون أن يدري!
الوزير هذا العام استوعب الدرس، فـ "الصراحة راحة"، الكهرباء ستنقطع رغم أنفكم وأنفي، لا تقولوا: "ما قلتم لنا"، فقد صارحناكم فتصرفوا! وقد أعذر من أنذر!
أما بعض المسئولين البيروقراطيين فمازالوا متمسكين بسياسة الرغوة و"الزبد"، وبدل مصارحة الناس بما يحدث في المعامير من كارثة بيئية، نراهم يجمعون بعض الصحافيين المقربين ليلقوا عظة الأحد مرة أخرى: "الشركة تمتلك أجهزة رصد عالمية عالية الجودة "يا عيني"، ولديها أنظمة تحكم متطورة "يا سلام سلم"، وكل ما أثير إنما هو "ضجة مفتعلة" وإثارات صحافية و"زبد"!
وفي وسط حمى الدفاع عن الذات، يلجأ أصحاب الشأن إلى استخدام الحيلة والفتيلة! فأحد أسباب الإصابة بالإحمرار الجلدي قناديل البحر! ولا ندري لماذا قناديل بحر المعامير شرسة وعدوانية إلى هذه الدرجة، بينما قناديل بحر كرانة أو قلالي هادئة ومسالمة، ولا تسبب الاحمرار الجماعي!
وإذا كانت هذه القناديل الملعونة هي أحد الأسباب، فما هي الأسباب الأخرى؟ بالتأكيد هناك متهمون آخرون: الهوامير والحراسين والضفادع والفشادغ وشرايب البطح والجمبري... كمان وكمان!
ثم كيف يتجرأ البيئيون الجهلة والصحافيون الأغبياء بالحديث عن تلوث البيئة؟ ومن الذي خولهم بالدفاع عن أهالي المعامير وسترة وجو وعسكر؟ سعادة رئيس قسم الصحة المهنية بوزارة الصحة نفى وجود شكاوى من إصابات جلدية وتنفسية أو حساسية بسبب غازات المصانع، فمن أين تأتون بهذه "التلفيقات"! ولأن السفسطة لا تكلف فلوسا فسنسمع منها الكثير!
سعادة مدير الهيئة العامة للبيئة لم يتأخر في إصدار فتواه هو الآخر: فـ "إصابة 70 مواطنا بالسرطان ووفاة 20 منهم خلال سبع سنوات أمر عادي جدا"... والدليل شهادة "الايزو" المقدسة!
على ان التهريج الأكاديمي الأكبر هو ما جاءت به نتائج البحوث الفيزيائية من أن "الغاز الخانق والغيم الأصفر ناتجان عن الانقلاب الحراري، ومن ظروف جوية هي من صنع الله ولا دخل للحكومة ولا المصانع فيها". تعالى الله علوا كبيرا، وكبرت كلمة تخرج من أفواههم، إن يقولون إلا كذبا! فالله لم يقتل الناس عبر القرون بالغيم الأصفر، ولم يرسل غازا خانقا على شعب من الشعوب، فلماذا يرسله على قرية صغيرة لا تظهر على خارطة البحرين، ولماذا دار الانقلاب الحراري ولف في الدنيا فلم يجد له موطئ قدم إلا في هذه القرية المبتلاة!
ثم ألا تذكركم هذه السفسطة العلمية المهترئة بقصة البهلول رحمه الله، الذي ابتلي بعقليات من هذا المستوى المتقدم جدا من الافتراء على الله، اعتادت إلقاء كل جرائم وأخطاء البشر على الله سبحانه، بدعوى أننا مسيرون ومجبورون، فما كان منه إلا أن دخل المسجد وألقى حجرة باتجاه المنبر فشج رأس الخطيب الفطحل وأسال دمه على قفطانه المزركش الجميل، ولما احتج الفيلسوف على هذا الصنيع أجابه البهلول مقهقها: "أنا الذي رميتك أم الله؟ هل نسيت اننا مسيرون ومجبورون يا شيخنا المعظم"!
كارثة بيئية محزنة، يستنفر للتغطية عليها مجموعة من المتطوعين المخلصين، أكاديميون وأقسام علاقات عامة فاشلة، ومديرون أنيقون من هواة جمع نباتات الزينة، ومن أدعياء "حماة البيئة" أيضا، كلهم اجتمعوا على قول رجل واحد: المعامير قصة مفتعلة، وقنديل البحر هو المجرم الذي ينبغي تقديمه إلى حبل المشنقة فداء وقربانا لأصحاب الذوات!
قليلا من الاحترام أيها السادة، وقليلا من التؤدة والوقار، هدئوا من روعكم، انما هي سبعون إصابة بالسرطان فقط، وهو معدل عادي وطبيعي، والموت حق على العباد، ومن لم يمت بالسيف أو القهر أو السياسة في هذا البلد، مات بغيره... بالغاز الخانق أو الغيم الأصفر أو بلسعة من قناديل البحر المتوحشة على ساحل المعامير
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 971 - الثلثاء 03 مايو 2005م الموافق 24 ربيع الاول 1426هـ