حين هبطنا في مطار الخرطوم فجرا، كانت درجة الحرارة تلامس الأربعين، فما بالك بالظهيرة، ولا يشابه أو ينافس حرارة مناخ السودان، الا حرارة أهله ومودتهم الصافية ونفوسهم الرائعة، حتى وهم يغوصون في المشكلات والاضطرابات القديمة الجديدة! يبدو المشهد السوداني مرشحا أكثر من غيره في هذه الظروف الصعبة، لدخول صيف أكثر سخونة والتهابا، فبقدر حجم السودان واتساع مساحته، وهي الأضخم افريقيا، وتعدد طوائفه العرقية والدينية والمذهبية وانفتاح حدوده الطويلة على تسع دول، بقدر ما يئن به ظهره من أعباء وأزمات تدفعه دفعا نحو دخول قوس الأزمات الشرق أوسطية، أو العربية الافريقية بمعنى أدق.
تقفز الى الذهن بالضرورة صور دراما دارفور - غرب السودان - التي تجر السودان جرا الى مرحلة جديدة من الصراعات المعقدة والمشتعلة هذه المرة على أسس عرقية، أو كما يقولون بين القبائل ذات الأصول العربية، وتلك ذات الأصول الافريقية على رغم أنهم جميعا مسلمون، وبسبب هذه الصراعات الجاذبة اندفعت القوى الدولية، حكومات ومنظمات أهلية، الى هذا الملعب الجديد الواسع الفسيح، "تزيد مساحة دارفور على مساحة فرنسا" لتصنع منه نموذجا جديدا لتصنيع الأزمات، ثم اعادة إدارتها وتسويتها على نار هادئة!
هكذا أصبح السودان معرضا للانقسام والانفصال، مثلما أصبح معرضا للعقوبات الدولية، بعد ان أصبح في مواجهة مع "قرارات الشرعية الدولية" بما في ذلك امكان التدخل العسكري دوليا.
فهل يستطيع السودان ان يواجه وحده كل ذلك في هذه الشهور الساخنة اللاهبة؟ أم انه سيصلب على حد السيف وحده؟!
بداية أزعم أن السودان باتساع مساحته وثرواته المائية والزراعية الوفيرة، ومعادنه ونفطه المكتشف وغير المكتشف، وتنوعه الثقافي الحضاري باعتباره جسر التواصل بين الثقافة العربية الإسلامية والثقافات الافريقية المتنوعة، كان محط أطماع الامبراطوريات الاستعمارية والأوروبية، وخصوصا البريطانية، التي رسمت حدوده بخبث انجليزي شهير لتزرع قنبلة مع كل جار، حتى مع مصر التوأم!
وتحركت فتن الانفصال في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، حتى قبل ان ينال السودان استقلاله بسنوات، حين بدأ التمرد في الجنوب بين القبائل الافريقية، بتشجيع وتحريض واسع، سواء من بعض دول الجوار الافريقي، أو من بعض الدول الأوروبية والهيئات المدنية والدينية العالمية، فضلا عن الصهيونية!
وعلى مدى أكثر من خمسين عاما ظلت الحرب الأهلية في أقاليم جنوب السودان، تشكل أخطر بؤر الصراعات الجاذبة للتدخل الافريقي والدولي، وحين نضجت الأوضاع تدخلت الولايات المتحدة الأميركية بكل قوتها وسطوتها، لتفرض على الحكومة السودانية والحركة الشعبية "الجنوبية" ايقاف قتالهما الذي التهب وخصوصا خلال العقدين الأخيرين تحت شعارات دينية وعرقية!
بالضغط الأميركي الواصل للتهديد المباشر، وقع الطرفان المتحاربان، وثيقة سلام في يناير/ كانون الثاني الماضي، تنهي الصراع المسلح وتقسم السلطة والثروة بين شركاء الحرب والسلام، كما يقول أنصارهما في نفس واحد، وان كنا نقول منذ البداية ان هذا الاتفاق يحمل مشروعا لانفصال الجنوب حتما بعد ست سنوات، لأن الهدف الرئيسي هو تقسيم السودان شمالا وجنوبا، شرقا وغربا، نموذجا لاعادة رسم خريطة الدول العربية، أو الساحة الشرق أوسطية!
وقد يقول قائل ان العراق هو اليوم الأكثر قابلية لتقسيمه على أسس عرقية وطائفية، الى ثلاث دويلات شيعية في الجنوب، وكردية في الشمال وسنية في الوسط والغرب، ونرد بأن هذا صحيح، لكن الصحيح ايضا ان السودان هو اليوم أكثر اغراء للتدخل الأجنبي الكاسح لاعادة تقسيمه والسيطرة عليه واحتكار ثرواته الهائلة، وخصوصا من النفط الذي يقدر عالميا بأنه سينافس بحيرة نفط الخليج، ومن الزراعة التي تبلغ أكثر من 200 مليون فدان غير مستغلة ثم من المعادن النادرة وخصوصا اليورانيوم، ناهيك عن الوفرة المائية المتدفقة!
في هذا الإطار تأتي أزمة دارفور بولاياتها الثلاث، اذ الصراع الدائر بين "العرب والافارقة" على المراعي والمزارع والماء، قد تحول الى أزمة دولية، اجتذبت كل ألوان التدخل الخارجي، وصولا إلى إصدار الأمم المتحدة أخيرا ثلاثة قرارات من مجلس الأمن، تفرض من الناحية الموضوعية "الوصاية الدولية" على السودان، وتحيل بعض قادته وأفراده الى المحكمة الجنائية الدولية، بتهمة ارتكاب جرائم تطهير عرقي ومذابح!
أي قبل أن يختبر أهل الشمال وأهل الجنوب في كيفية تنفيذ اتفاق السلام، انفجر صراع جديد في غرب السودان، وصل الى توصيفه دوليا بأنه "أكبر كارثة انسانية في هذا العصر"، ثم بدأ تحريك وتسخين الأوضاع في شرق السودان بين قبائل "البجا"، بل وفي جبال النوبة أيضا، كل يبحث عن نصيبه من الثروة والسلطة، على غرار النموذج الذي أنتجته الخبرة الأميركية في تسوية الجنوب.
انه سيناريو التمزيق والتفتيت والتقسيم لهذا الجسد الطويل العريض الثري، الذي لم يستطع "عقله المفكر" ان يفكر في الأسباب الحقيقية لتمرد الجنوب أو الغرب والشرق، ولم يستوعب ثم يحتوي التنوع الثقافي العرقي الديني الذي يزخر به ولم يقدر أن الدوافع الاجتماعية الاقتصادية والتهميش والعزل بل والقهر السياسي، تولد الانفجارات المتتالية وخصوصا اذا ما وجدت الدعم والتحريض الخارجي!
ومن الخطأ التاريخي ان نركن فقط لحجة التدخلات الخارجية والتحريض الأجنبي والأصابع الصهيونية، ثم نتجاهل الأسباب الداخلية التي نراها المسئول الرئيسي، عما وصل اليه حال السودان اليوم، فمن أسف أن القوى السياسية التي حكمت السودان منذ الاستقلال حتى الآن، تراوحت ما بين القوى الدينية التقليدية والقوى العسكرية الطامحة ما بين بيت المهدي وبيت الميرغني، ثم ما بين الحكومات المدنية والانقلابات العسكرية في متتاليات سودانية شهيرة وملفتة.
وبين هذا وذاك ضاعت النخبة السودانية المثقفة والمسيسة، مثلما ضاعت المصلحة العامة لوحدة الوطن وتنوع الشعب، وجرى تهميش الجميع، في الشرق والغرب، في الشمال والجنوب، لصالح الفئات التي تصارعت على الحكم، والتي استسهل معظمها "أسلوب الردع العسكري" أو اسلوب "الجهاد الديني" لقمع التمرد هنا أو هناك.
الآن... السودان في مأزق تاريخي هائل، لا نظن انه قادر على تجاوزه وحده وبسلامة، لكي يخرج منه سليما موحدا بل هو مقدم على صيف ساخن لاهب، بعد ان تم وضعه على حد السيف، وبعد ان تم حشره في مواجهة مفتوحة بل في خانة مغلقة على الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، وفي صدام مباشر مع قرارات مجلس الأمن وعلى القانون الدولي، وتحت التهديد السافر بالتدخل العسكري في دارفور باسم قانون التدخل الانساني لإنقاذ الشعوب من قهر حكامها وظلمهم!
وعلى رغم اعتقادنا بجدوى المقاومة ضد الظلم والقهر سواء جاءا من حكومات الداخل، أو من حكومات الخارج، فإن الوضع الذي تم حشر السودان فيه الآن، لا يمكن مقاومته أو اصلاحه وتسويته بمجرد المظاهرات الشعبية الموجهة، ولا بالعواطف الوطنية الجياشة ولا حتى بالقسم بأغلظ الأيمان!
ذلك أن صعوبة وقسوة الدراما السودانية، وخصوصا في دارفور التي يتحمل مسئوليتها كما مسئولية غيرها من الاقاليم المهمشة من حكم السودان على مدى الخمسين عاما الماضية، اضافة الى التطورات الدولية المتسارعة التي تركب موجاتها عصابة المحافظين الجدد في المطبخ السياسي الأميركي، ذات الميول العدوانية الاستعمارية المعادية، لا تتيح للسودان بظروفه الحالية قبول التحدي ودخول المواجهات المفتوحة والمخاطرات غير المحسوبة.
انما الأمر يحتاج الى تحكيم التفكير العاقل الهادئ لتفادي العاصفة والخروج منها بأقل الخسائر مثلما يحتاج الى البحث والتشاور مع الآخرين في المجتمع الدولي والعربي والافريقي بشأن مخارج قانونية وتسويات سياسية للأزمة بدلا من تركها تتصاعد لتفتح الطريق أمام دعاة الغزو العسكري الاميركي أو الأوروبي أو الأطلسي باسم انقاذ الانسانية المعذبة!
وعلى رغم هبوب العواصف ونذر المخاطر في هذا الصيف اللاهب، حاملة سيناريو تصعيد هذه الأزمة المعقدة فإن أهلنا في السودان مازالوا منقسمين متنازعين حتى زعماء أهل الشمال الذين ضاقت عليهم الدائرة ووضعت رؤوسهم على حد السيف، مازالوا يبحثون عن الأنصبة وتوزيع المقاعد وعدد الممثلين وحجم المكاسب تارة باسم استعادة الديمقراطية، وتارة أخرى نكاية بنظام الحكم الذي جاء بانقلاب العام 1989 باسم انقاذ البلاد!
وفي كل الأحوال يظل الدور العربي غائبا لتباعده، لكن الغريب والخطير حقا، أن يبقى الدور المصري هماشيا في إدارة أزمة هي صميم ازمته!! بكل أسف.
خير الكلام:
يقول البارودي:
فوأسفا إذ ليس يجدي تأسف
على ما طواه الدهر من عيشنا الرغد
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 971 - الثلثاء 03 مايو 2005م الموافق 24 ربيع الاول 1426هـ