بدأت الانقسامات اللبنانية بالظهور علنا على الشاشات المحلية وأخذت الفضائيات تنقل جوانب عن تلك الصورة بعد طول غياب اسهم الوجود العسكري السوري في حجبها لفترة طويلة.
المشكلات اللبنانية قديمة تعود إلى ما قبل فترة الدخول العسكري السوري رسميا وبتغطية محلية وعربية ودولية في العام .1976 والمشكلات ليست كلها ناتجة عن تدخلات إقليمية ودولية فهناك الكثير من العناصر المحلية التي أورثت البلد قلقه الدائم وتعايشه غير المستقر.
الآن وبعد الخروج بدأت الانقسامات بالظهور آخذة اشكالها واحجامها ومنطقها الداخلي المحكوم بالطائفية والمذهبية والمناطقية. فالمعارضة مثلا لم تعد موحدة على بند واحد كذلك الموالاة. فالبند الذي كان يوحد المعارضة خرج، كذلك اسهم الخروج في انكشاف احجام الموالاة بين هيئات لا طعم لها ولا رائحة ومنظمات تتمتع بنفوذ خاص ناتج عن موقعها ودورها.
لبنان الآن يعيش سياسيا مرحلة انتقالية تودع بقايا ما سبق وتؤسس لفترة جديدة لن تكون مختلفة كثيرا في عناصرها المحلية عن عهده القديم. فالطائفية لاتزال حاضرة، وكذلك المذهبية وما يتفرع عنها من قوى سياسية تستمد نفوذها من المناطق. فكل منطقة لها مذاقها الخاص ولونها الطائفي أو المذهبي وهي في النهاية تشكل كتلة سياسية تقودها منظمة أو هيئة أو زعيم محلي يتمتع بعصبية عشائرية. وهذه التكتلات تلعب دورها في تحريك الناس ودفعهم للذهاب إلى صناديق الاقتراع والتصويت لهذه اللائحة من المترشحين... وبعد الانتخابات تتحول تلك التكتلات السياسية العشائرية "المناطقية" والمذهبية والطائفية إلى تكتلات نيابية تقود السلطة التشريعية وتدير دفة الحكم من خلال توزيع الحصص والمناصب وفق تراتب هرمي متفق عليه بالدستور أو الأعراف التقليدية.
هذا النظام السياسي في لبنان اسهم في توليد الأزمات وانتج مراكز قوى ترسم خطوط التماس بين الطوائف وتمنع التجاوزات المذهبية أو تعدي كتلة سياسية "نيابية" على حقوق كتلة أخرى تمارس نفوذها أو سيطرتها أو هيمنتها في منطقة أخرى. فطبيعة النظام اللبناني هو نتاج توافق. والتوافق ينتج بدوره أزمات ثم تعود الأزمات لتؤسس ذاك التوافق. وهذا ما اتفق على تسميته باللعبة البرلمانية أو الأصول اللبنانية للديمقراطية.
الديمقراطية اللبنانية في هذا المعنى التوافقي مميزة ومن الصعب ان نرى ما يشبهها في ديمقراطيات العالم كذلك يصعب على الآخرين تقليدها كما حاولت القوى السياسية العراقية ان تفعله.
من الخطأ تقليد "الديمقراطية اللبنانية" كذلك من الخطأ العبث بمنظومتها الداخلية من دون التوافق على التعديل أو التصحيح. فالتلاعب في التوازنات يعني إعادة الطوائف إلى ساحات القتال.
النظام التوافقي في لبنان حساس ويعتمد الدقة في الحسابات. فهو يتعارض مع النسبية لأن النسبية تعتمد منطق الحساب المئوي لا منطق التوافق. وهو أيضا يتعارض مع الأكثرية لأن الأكثرية تعتمد منطق الغالبية "والاقلية" لا منطق التوزيع المتعادل "6 مقابل 6" ثم التوزيع النسبي لكل .6 فالنظام بسيط ومعقد في الآن ويصعب تعديله من دون توافق. والتوافق يفترض ضمنا نسبة عالية من الوعي التاريخي "التسووي" وهذا غير متوافر حتى الآن في لبنان.
مثلا مهما ازداد عدد المسلمين في لبنان فإن حصتهم في المجلس النيابي لا تتعدى 64 مقعدا. كذلك مهما تناقص عدد المسيحيين في لبنان فإن حصتهم في المجلس لن تتراجع عن 64 مقعدا. وحين يكون النظام الديمقراطي يعتمد المحاصصة الطائفية "الكوتا" بهذه الطريقة يصبح الكلام عن النسبية والدائرة الواحدة ضربا من المحال. كذلك يصبح الكلام عن الأكثرية "الغالبية والاقلية" من صنوف الخيال. فالمشكلة ليست في قانون الانتخابات وانما في النظام نفسه وآليات إنتاج السياسة وتوزيع مصادرها ومراكز قواها.
كل هذه الأمور والتفصيلات والتعقيدات بدأت تظهر الآن على الشاشات والفضائيات. وهذا كان من الصعب رؤيته بمثل هذا الوضوح لو لم تسحب دمشق قواتها من لبنان. وحسنا فعلت
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 971 - الثلثاء 03 مايو 2005م الموافق 24 ربيع الاول 1426هـ