"مخطئ من ظن يوما أن للثعلب دينا" بيت شعر لأحمد شوقي حين يجري الحديث عن اليوم العالمي للصحافة تظهر جعجعة إعلامية، ولكنها لا تنتج طحينا، فالرأي الأهلي الحقوقي يتذمر من قمع وانخفاض للحريات، والرسمي وتوابعه، يروج في كل الأوقات ويتباهى بأن الوطن يعيش في أزهى عصور الحرية والديمقراطية. ربما الأول يكذب كذبة، ولكنها بيضاء، أما الثاني "الرسمي" فكذبته سمجة لا تحتمل التصديق، لأن الأجهزة نفسها والأشخاص، وهي بالمناسبة، أدوات عتيقة في مصنع هرم كانت في الماضي تردد مثل الببغاوات ما تقوله الحكومة وتلمعه، واليوم إذ تطحننا في مكنتها الإعلامية تقول لنا نحن بحاجة إلى إصلاح وديمقراطية، ولا نعرف ما ينبغي إصلاحه إذا كنا في أزهى عصور الحرية والديمقراطية في الماضي والحاضر ونمارسهما بسلاسة!
الكاتب السوري ثائر زكي الزعزوع التقط في مقالة له عنونها بـ "ما معنى رأيك؟"، إحدى تعليقات المبدع زياد الرحباني في "العقل زينة"، حين يقول: "هذا الحزب سيئ واستغلالي وامبريالي و...و...و... فتقول له الممثلة التي معه: ولكنهم يقولون في شعارهم: العدالة والتنمية والحرية و... و... و...، فيرد ضاحكا: تخيلي أن يكون شعاره: الحزب السيئ الاستغلالي الإمبريالي...".
فتخيلوا معي فقرة في دستور، أي دستور على وجه المعمورة تقول: يتعرض للسجن من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات كل مواطن يبدي رأيه في القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
واضح أن الأمر لا يحتاج إلى تعليق أكثر من عمق تعليقات الرحباني في "العقل زينة"، فهذا ينطبق على جل إعلام الأنظمة العربية وأحزابها الحاكمة "الحبيبة"، غير أنني في اليوم العالمي لحرية الصحافة، سأحاول "المزاح في حدود المتاح"، وأن أمارس حقي الطبيعي في ما يسمى بـ "الميديا كارتا"، أي المطالبة بحرية النشر والتعبير، في مرحلة تتيح لنا بعد اختيار البحرين طريق الإصلاحات، أن "نقول ما نشاء قوله، وتفعل الحكومة ما تشاء!"، على رغم أننا لسنا في مأمن من ويلات البحث عن العدالة المفقودة لهذه المعادلة. وبحسب تصنيف الصورة الإعلامية عندنا انها: "ليست مضيئة إلى هذا الحد، ولكنها ليست في ظلمة دامسة، كما عند الآخرين"، على رغم أن صحافتنا، أو بعضا منها، مازالت تدور "مثل الثور في الساقية"، حول المعادلة القائلة: "تفعل الحكومة ما تشاء وتكتب الصحافة ما تريده الحكومة!".
عندما نقول ان الإعلام الرسمي وتوابعه يكذب، فهذه ليست شتيمة، لأن هذا "الإعلام" صحافة وتلفزيون الذي نحاول تحريره من هيمنة الدولة، روج في الماضي، بأننا نعيش في "بحبوحة" من الحريات والديمقراطية، والعدالة والمساواة، والآن تخرج علينا الأجهزة نفسها والوجوه نفسها لتقول: "نحن في حاجة للإصلاح!".
يقول الزعزوع في ما معنى رأيك؟ "كنا تعلمنا منذ الصغر أن "الاختلاف في أمتي رحمة" وأن "الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية" وتعلمنا لاحقا "أنني قد أختلف معك في الرأي، ولكني أضحي بحياتي لتقول رأيك"". وعلى رغم أن حرية إبداء الرأي حق يضمنه دستور أية دولة في الأرض، فإنه بند شكلي في الكثير من الدساتير، بل هو مخالفة دستورية في بعض دساتيرنا العربية، وهو حق تضمنه الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، والاتحاد الأوروبي، والجامعة العربية... وإلى ما هنالك من مؤسسات ومنظمات وجمعيات، لكنه ظل حبرا على ورق في شرقنا الحبيب، ووضع إما نوعا من الترف اللغوي، أو لإرضاء طرف أو أطراف ما.
ماذا نتذكر في اليوم العالمي لحرية الصحافة؟ ربما نتذكر صحفا وصحافيين قدموا القرابين بأن تقوم الصحافة بدورها المهني العالي، ونتذكر الذين انتهكت حقوقهم وحرياتهم، وقد نتحدث عن أخلاقيات المهنة، وعن تعميم ثقافة الحوار، والثقافة الحقوقية التي تساعد الصحافي على معرفة حقوقه، وعدم التعدي على حقوق غيره... وربما نتذكر أسماء صحف وصحافيين مدافعين عن حرية الرأي والتعبير وحملوا لواء الاستقلالية وتمت "مكافأتهم" بطريقة بوليسية، كما كوفئ بعض الصحافيين بجرجرتهم إلى المحاكم أو المعتقلات، أو النفي الإجباري أو الطوعي، وما يلاقونه من شظف عيش وتشرد... وربما نتذكر القوانين المقيدة للحريات، غير أن المفاجأة المثيرة، ان الرسميين أيضا يحتفلون بهذا اليوم على طريقتهم الخاصة فيتحول ضمن مقاسات غريبة، مثل الكاتب الروسي غريشن، الذي مدحه القيصر بعد وفاته كما امتدحته المعارضة الروسية للقيصرية، وكلاهما يعتقد أن كتاباته تعنيه وتحييه! وما على الصحافيين إلا أن يعيشوا كل يوم نتائج أليمة لصراع مزدوج بين جهات تعشق تكميم الأفواه وتهيمن على وسائل الإعلام وتزايد بالحريات المتاحة، وبين سياسة الخوف من المجهول في السعي وراء بناء الحقيقة، التي هي من صلب وظيفتهم المهنية
العدد 970 - الإثنين 02 مايو 2005م الموافق 23 ربيع الاول 1426هـ