العدد 970 - الإثنين 02 مايو 2005م الموافق 23 ربيع الاول 1426هـ

لبنان... هل انتهت أزمة هذا البلد الصغير أم بدأت؟!

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

يتألف لبنان في تعريف التوراة من جبل شامخ عظيم في شمال نهر الليطاني، ولا يميز الكتاب المقدس بين جبل لبنان الشرقي وجبل لبنان الغربي، بل أطلق على كليهما اسم لبنان. ولبنان كلمة عبرانية بمعنى الأبيض، لبياض هامات جباله بالثلج، نجد ذكره في الكتاب المقدس وفي غيره من الكتب القديمة، وقد عرفه العرب بهذا الاسم.

وعورة جبل لبنان الغربي، قبل وصول السيارات والطوافات الهوائية، جعله ملجأ تلجأ إليه الطوائف الدينية التي تشعر بالاضطهاد، نائية بمعتقداتها ورقاب أهلها عن الملاحقة التي تقود عادة إلى القتل. لذلك تركز المسيحيون الموارنة تاريخيا في مرتفعات الجبل، والدروز في الجزء الجنوبي من الجبل، والشيعة شمال سهل البقاع، وترك للسنة غير المطاردين العيش في السواحل والسهول الداخلية.

قبضة العثمانيين غير المريحة على لبنان عمقت هذا التباين الجغرافي الذي تحول إلى اجتماعي وسياسي بين المجتمع الجبلي والمجتمع الحضري، وورث هذا التباين العصبيات، وأنتج الإمارات المختلفة التي توالد بعضها عن بعض، والتي تطورت لتفرخ تسمية المقامات بـ "المير" و"الشيخ" و"البيك"، وهي إن كانت من مورثات الماضي إلا أنها استمرت في الحاضر، وأورثت في عصر "الاستقلال" المحاصصة "الطائفية"، التي جعلت من هذا البلد الصغير والجميل، نقطة تجاذب على مر تاريخه المعاصر، ومكانا للتنافس بين القوى الكبرى والمتوسطة عالميا وإقليميا للاتكاء عليه، ومدخلها الدائم والطبيعي هو عدم توافق اللبنانيين فيما بينهم.

ربما المرحوم رفيق الحريري بعد عناء، قدم للبنانيين أملا له معنى، وهو احتمال أن يتطور إلى "وطن غير محاصص"، وربما في مرحلة الحريري التاريخية التي توافرت لها عناصر غير مسبوقة، أراد اللبنانيون أن ينصهروا في ما تاقت إليه نخبتهم منذ زمن، فمثل الحريري هذا التوق، وكان القضاء على الطائفية السياسية حلما حلم به أهل الطائف اللبنانيون، ولكنهم لم يستطيعوا أن يحققوه على الأرض، لأنهم سرعان ما عادوا إلى الفكرة الموروثة من قبل، ما أن استقر بهم الأمر في لبنان.

قد يكون الوجود السوري في العقود الثلاثة الماضية ارتكب أخطاء في لبنان، ولكن بعض هذه الأخطاء الكبيرة، مهد لها وساعد عليها بعض أهل لبنان، كما ساعد عليها غياب وعي سياسي في دمشق لم يلتفت إلى تاريخ لبنان السياسي، هي دروس للتاريخ قد يستفيد منها البعض في هذا البلد الصغير وفي الجوار.

يوم الثلثاء الماضي كان يوم فرحة لقصارى النظر السياسي فقط عندما تم وداع "آخر جندي سوري في لبنان" وداعا هزيلا، وكان يوم غصة العروبيين اللبنانيين وغيرهم الذين ما فتئوا يلوكون الشعارات، فلا القطيعة بقادرة على أن تجعل لبنان مستقرا، ولا الاندماج القسري بقادر على فعل ذلك. التقسيمات السياسية العربية بعد الحرب الأولى وجدت لتبقى، ولا أكثر تعبيرا مما بين أيدينا غير قول مجرب فطن، هو الصديق رياض الريس، عندما أكد من تجربة طويلة في لبنان، في كتابه "آخر الخوارج"، إذ قال: "بعد أربعة عقود في لبنان لا اللبنانيون اعترفوا بلبنانيتي، ولا السوريون قبلوا أن أكون سوريا!".

للمفكر الاجتماعي إيليا حريق كتاب قديم صدر في مطلع السبعينات ونشرته "دار النهار" اللبنانية وكان بعنوان ملفت "من يحكم لبنان"، ما أحوجنا إلى إعادة قراءة ذاك الكتاب. في خلاصة الكتاب الذي درس فيه إيليا حريق طريق لبنان السياسي بمطباته وحواجزه في العقدين السابقين لصدور كتابه، أي منذ الاستقلال عن فرنسا حتى عشية الحرب الأهلية، أو كما يحلو للبعض من اللبنانيين تسميتها تهربا "حرب الآخرين على أرض لبنان"، يقول بشكل معمم "لا يحد من لذة السلطة التي يتمتع بها أهل الحل والعقد سوى الاحتقار الذي يكنه الناس لهم"، وتبريره لذلك انه "لا يمكن لأحد دخول السياسة من دون أن يلطخ سمعته ومن دون أن يضطر للخروج عن الطريق"، إلا في لبنان فتواضع نتائج ما يحققه السياسيون اللبنانيون تجعلهم يتواضعون بسبب أنهم لم يحققوا تفوقا أو امتيازا في عملهم لا من جهة صرف الأمور بفاعلية ولا من جهة تحقيق العدالة الاجتماعية. واقعيتهم الشديدة ظلت مجردة من الخيال مسلوبة القدرة على التغيير وقاصرة عن مسايرة العصر.

مجلس النواب تغير في العموم من "مجلس ملاكين" إلى "مجلس مهنيين ورجال أعمال" في فترة ما بعد الاستقلال وما قبل الحرب الأهلية، فلم تطعم هذه النخبة بالقوى الجديدة، بل كانت "استمرارا لعائلات إقطاعية قديمة وزعامات تقليدية"، شكلت طبقة لتقاسم المنافع وتدوير المناصب. ملاحظة إيليا حريق قد تكون دقيقة بعد ثلث قرن تقريبا، فالتحالف بين المهنيين وأصحاب رؤوس الأموال مازال يطل بوجهه حتى بعد "ثورة الشباب الأخضر" في ساحة الشهداء، الحرية حاليا.

كم هو التاريخ الاجتماعي يهزأ بنا، فقد توقع إيليا حريق ألا تستطيع النخبة السابقة قبل الحرب أن توفر "مصالحة وطنية"، وهذا هو التاريخ يعيد نفسه من جديد، فبعضهم مهموم بالسياسة الخارجية قبل لقمة الخبز. كان هذا خطأ اليسار العربي ومازال في بعض أوطاننا، وبعضهم مهموم بما يمكن أن يلاقيه بعد هذه الحياة الفانية فيتجاهل مطالب الحياة اليومية للناس من تعليم وتطبيب وسكن وعمل مثمر وشريف.

النخبة السياسية اللبنانية تضع الآمال في غير موضعها، وبعضها قد يسكرها التخلص من الشقيق السوري الذي كان حاضرا لوضع كل اللوم المعيشي والسياسي عليه، وكان بالمقدور تسويق هذا اللوم بسهولة في عقل العامة وقبوله دون تردد، ولكن بعد الثلثاء الماضي لم يعد هذا اللوم قابلا للتسويق، والهوس أيضا بتحرير كل الأرض العربية من لبنان لدى البعض يعيد الكرة للتذكير من جديد بترك العاجل للتفكير في الآجل، الخطأ الذي ارتكب أكثر من مرة من النخب السياسية العربية، حتى فاجأهم العاجل دون إنذار.

من مفردات لبنان الملحوظة أن "أهل الحل والعقد" على رغم انقسامهم الاجتماعي التاريخي هم "أهل بيت واحد"، وهي ظاهرة اجتماعية سياسية تكاد تكون عربية أيضا، في اختلافهم الظاهري يعملون على توزيع المغانم وحصرها في هذه الفئة، وربما أحد الأخطاء التي قللت من نفوذ السلطة السورية في لبنان وأذنت بخروجها، عدم انتباهها لهذه الآلية التي لعبت فيها من دون تبصر حتى انقلب الفرقاء على اللاعب.

بصرف النظر عن القانون الذي سيتوافق عليه اللبنانيون للانتخابات المقبلة، فتحديد اللوائح الانتخابية من الأسماء نفسها هو تحد للمطالب التغييرية، والأخطاء القديمة قد تتكرر، إلا أنها قد تكون قاتلة هذه المرة، لأنها لم تأخذ علما بحركة المجتمع المدني الذي تجمع يوم الرابع عشر من مارس/آذار الماضي، ولم تأخذ علما بحركة العالم حولها، فلم يقف العالم هذه الوقفة مع اللبنانيين من أجل أن تبقى النخبة قابضة على مقدرات الناس، ضاربة عرض الحائط بالحاجات الأساسية للناس، فبجانب الحرية يحتاج الناس إلى الخبز أيضا.

والأسئلة التي تواجه الاستحقاق اللبناني قريبا بعد الانتخابات المقبلة هي ذات شقين، الأول هل تنصاع النخبة لنداء التغيير الذي بشر به الحريري وعمل على تكوين مفرداته بصبر إلى درجة أن فقد حياته في سبيله، وهل تستجيب النخب الحالية لفسح المجال أمام أجندة جديدة تستجيب للعصر، أم سيظل التجاذب بشأن القضايا القديمة حتى تصبح الحياة السياسية في لبنان عبئا على اللبنانيين ويستنجدون بأدوات أخرى كما فعلوا لإنقاذهم منها؟

أما الثاني والأخطر، فلقد سمع الجميع أصواتا لبنانية وغيرها تقول "ان سلاح حزب الله هو مسألة لبنانية"، وبصرف النظر عن الجغرافيا فإنه إن كان مسألة فهذه المسألة تحتاج إلى جواب، هل هناك تصور لجواب، أم أن هذه "المسألة" ككل المسائل السابقة في هذا الوطن الصغير، تجر تبعاتها لتفرخ مسائل؟

تلك أسئلة بتصرف اللبنانيين عشية ذهابهم لأول انتخابات حرة ومراقبة من العالم منذ ثلاثة عقود

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 970 - الإثنين 02 مايو 2005م الموافق 23 ربيع الاول 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً