في العام 1987 وقعت مجموعة من الدول الغربية اتفاقا هو الأول من نوعه على مستوى العالم، لخفض إنتاج الثلاجات ومكيفات الهواء، نظرا إلى ما تنشره من غازات تلوث الجو. وعندما عرفت الشعوب الغربية لأول مرة الدمار الذي تسببه الأمطار الحمضية من إهلاك للحرث والزرع، خرجوا في مظاهرات لحماية بيئتهم التي لا يملكون غيرها، وتكونت منظمات دولية وإقليمية للدفاع عن تراب وهواء وأناس تلك الأوطان. وتكون "الاتحاد الدولي للمحافظة على الموارد الطبيعية"، وتشكلت جماعات "السلام الأخضر"، ومنظمة "الأصدقاء الدوليين للكرة الأرضية"، غير اللجان الفنية والعلمية التي أخذت بوضع التقارير التي ترصد التغيرات الجارية على الأرض وفي السماء، وتنشرها بكل شفافية وصدق للجمهور.
مصطلح "ثقب الأوزون" المشهور الآن، كان غامضا أول ما طرح في الصحافة نهاية الثمانينات، وتولى العلماء الغربيون شرحه لشعوبهم: الثقب الحادث في الغلاف الجوي أدى إلى زيادة تسرب الأشعة فوق البنفسجية من طبقة الأوزون فوق المعدل الطبيعي، وكان أول ضحاياه الكائنات البحرية الصغيرة التي تتغذى عليها الأسماك، وهذه الأسماك تنتهي إلى بطون الناس، فتسبب عددا من الأمراض، ولما أدرك الناس خطورة الوضع خرجوا في مظاهرات لإيجاد حل لهذه الكارثة القاتلة، ما اضطر حكوماتهم إلى التحرك في هذا الاتجاه.
المجتمع المتحضر الذي يحترم مواطنيه، ويقوم فيه كل طرف بمسئوليته الوطنية، من الصحافة إلى العلماء والمثقفين وغيرهم من مؤسسات أهلية ومدنية، لا يعدم الحصول على مخارج من أزماته ومشكلاته، أما في المجتمعات المتخلفة، فتجتمع مصالح الحكومات ومصالح بعض المثقفين والإعلاميين على تزييف الحقائق وخلط الأوراق وتقديم الأكاذيب على أنها حقائق علمية، وبدل مصارحة الناس بالأوضاع الكارثية والبحث عن حلول علمية وعملية، نراهم يستميتون في الدفاع عن نتائج السياسات التنموية الخاطئة، وينصبون أنفسهم مدافعين شرسين عن الحكومات والمصارف والشركات الكبرى والمصالح الرأسمالية الجشعة.
الباحث الأكاديمي في الغرب يستخدم العلم مشعلا لينور الرأي العام ويضعه في الصورة، أما الباحث الأكاديمي عندنا فيعد مرافعة "غير قانونية" من 860 كلمة، 530 كلمة منها للدفاع عن سياسات الحكومة الرشيدة ابتداء من الوزراء والوكلاء والمديرين وانتهاء بصغار الموظفين في الوزارات. ولا تكتمل أركان المرافعة إلا بالدفاع عن الشركات "الوطنية" التي تمتلك أجهزة تحكم ورصد عالمية حتى حازت شهادة الإيزو العالمية.
مثل هذه الكوارث تطيح بالوزراء المعنيين في الدول الأخرى، أما نحن فحكومتنا محظوظة جدا، لكثرة الكتائب التي تدافع عن أخطائها في كل مكان: في البرلمان "جماعة أنصار الحكومة" عارضت تشكيل لجنة تحقيق في كارثة المعامير، فهؤلاء الذين ينهش أجسادهم السرطان ليسوا بشرا!
جماعة "أصدقاء الحكومة" في الصحافة لم يقصروا في محاولاتهم التستر على القضية بعد أسبوع من نشر "الوسط" للكارثة، بعد أن تكشفت الأرقام عن كوارث يومية أخذت تنشرها المنتديات الإلكترونية، فأخذت بعض الصحف بـ "استعارة" الصور منها من دون إشارة "قانونية"، ولم تكلف نفسها عناء إرسال مصورها إلى تلك القرية المنكوبة! وعندما تحركوا أرادوا نشر "الحقائق" من وجهة نظر الشركة التقية النقية، وأتوا بأسباب هي أقرب للسفسطة والتهريج: "أحد أسباب الاحمرار الجلدي قناديل البحر!"، و"الضجة" بشأن المعامير "مفتعلة"، والاتهامات "غير منصفة"!
بعض "الأكاديميين" تولوا إكمال المهمة "الوطنية"، بتجنيب الحكومة الشبهات، وتقديم "المبررات العلمية"، وأن على المواطنين تقبل توابع ذلك! أليسوا أغناما ودجاجا وفراخا، ومن يفكر في حماية الأغنام في هذا البلد؟
وهكذا يصل الدور الذي يلعبه الأكاديمي إلى مستوى الخيانة الوطنية، حين يقبل العمل درويشا بطربوش علمي في دائرة المماحكات السياسية السخيفة!
كارثة المعامير ليست الأولى، فمنذ سنوات طويلة وأهالي المنطقة الجنوبية يعانون من مشكلات ضيق التنفس والحساسية والربو، وأهالي جو وعسكر كانوا الأكثر معاناة في هذا البلد جراء قصور عمليات التخطيط التنموي، وعدم أخذها في الاعتبار الكلفة الانسانية الباهظة التي بدأنا ندفعها من أرواح المواطنين، وعلى المواطنين أن يرضوا بما يصيبهم، أليس ذلك قضاء نازلا من السماء مع الأمطار الحمضية؟
هذه هي النتائج الأولى لعمليات التدليس العلمي وخيانة المسئولية. هناك يقوم المثقف بتنوير الناس، كأنه يضع بين عينيه الكلمة الجميلة للخليفة عمر بن الخطاب "رض": "إنكم مسئولون عن بهائم الأرض وبقاعها"، أما المثقف فيعرف يقينا أن هلال العيد يوم السبت، ولكنه يفضل الإفطار يوم الجمعة على مائدة الحكومة... أليس الأكل على هذه المائدة أدسم؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 970 - الإثنين 02 مايو 2005م الموافق 23 ربيع الاول 1426هـ