العدد 970 - الإثنين 02 مايو 2005م الموافق 23 ربيع الاول 1426هـ

معاناة زوالها بالتدريج

المنامة - عبدالله الفردان 

تحديث: 12 مايو 2017

غاب القمر، واختفت النجوم من السماء، واشتد عصف الرياح الهوج، وقلبت الأشياء، وبعثرت القمامة في الطرقات، واشتد عصفها واهتزت الأسلاك الكهربائية للشوارع والطرقات وسمع صوتها كأنها تعزف موسيقاها. وفجأة انقطعت الكهرباء عن البيوت، والشوارع والطرقات، وأسرع الناس يحتمون ببيوتهم، وسمع أذان الديكة في البيوت، وكأن الرعب قد سيطر على النفوس، وأصابهم الهلع والجزع، لم تمر ساعة حتى اختلت الشوارع من المارة وظلوا نياما في البيوت، وفي ظل هذه الظروف العصيبة كان صلاح مع زوجته مديحة وأطفاله الاثنين نياما في حجرة مزدوجة في الدور الأول، ووالده نائم في ملحق في الدور الأرضي لجأ إليه بعد موت زوجته وهجر غرفة النوم، وفي الملحق كلب أليف يحرس البيت.

سمع صلاح طرق باب غرفة نومه، ونباح كلبه، فاستيقظ مذعورا، واشعل الشموع وحمل مصباحا يدويا يعمل على بطارية قد احتفظ به لوقت الأزمات وانقطاع الكهرباء، زوجته مديحة تمنعه من الخروج وتقول: "كلبنا ينبح جوعا فعسى يحصل لحما" قال صلاح: "أدرك الكلب مصيبة فنبح" وهم مرة ثانية في الخروج لكن زوجته مديحة حالت بينه وبين الخروج، وقالت: "اخشى أن لصا مسلحا أراد السطو على البيت فتكون أنت ضحيته من دون سلاح يحميك ويدفع عنك شر أعاديك"، لكن نباح الكلب ازداد واخذ يضرب على الباب، ويتعلق بقفله وكأنه يريد أن يقول لهم شيئا مريبا قد حدث في البيت، فاستيقظ الأطفال وهم صياح، وزاد الخوف في نفوسهم، وصالوا وجالوا في غرفة النوم، وقد اغرورقت عيونهم بالدموع، واختضن صلاح الأطفال وقال لزوجته احفظيهم وهدئي روعتهم عن الصياح، وانشغلت الزوجة مديحة بملاطفة الأطفال، وفجأة أندفع صلاح إلى الباب وفتحه وهم بالخروج، فسبقه الكلب في الدخول إلى غرفة النوم، وهو ينبح ويمسك بتلابيب ثيابهم يسحبها ويجبرهم على الخروج ليدلهم على أمر خطير يكاد يستطير، فزاد هياج الأطفال، وتروعوا من المنظر المريب، والزوجة بكت وهي تمسح على رؤوس الأطفال، فقال صلاح: "اعطي كل واحد شمعة وأنت معهم وأنا احمل المصباح اليدوي وننصرف نتبع الكلب إلى ما يريد"، نزل الكلب من سلم البيت وهم وراءه يحملون الشموع صياحا وكلما توقفوا في الطريق رجع إليهم الكلب بالنباح، وما أن وصلوا إلى الملحق انصرف إلى أبي صلاح في فراشه ثم انزوى الكلب عند الباب وسكت، نظر صلاح إلى والده وعيناه مغرورقتان بالدموع وهو يتلوى ألما بصوت مخنوق، انكب صلاح على والده يقبله، ويسأله ماذا حدث له، لكن والده لا يجيب فهو في حال إغماء شديد، طلب صلاح الهاتف، فقربته، إليه زوجته مديحة، وأتصل بطبيب الأسرة، وطلب منه الإسراع والنجدة لانقاذ والده من النكسة المرضية، وأجابه الطبيب قائلا: "سأبذل قصارى جهدي للوصول إلى بيتكم، واسمح لي لو تأخرت في ظل هذه الظروف الصعبة وتقلبات الجو الخطيرة، وظلمة الليل الحالكة، وهبوب الرياح العاصفة، التي لم تترك شيئا إلا قلبته ودمرته، وهي تزمجر كطوفان مستمر".

اخذ صلاح ينظر إلى والده ويمسح الدمع من عينيه، ويتحسس أنفاسه وخلجات قلبه، ويبسط الرداء على جسده، ويناديه بين آن وآخر، لكنه لا يرد عليه جوابا، والأطفال من حوله يبكون ويتألمون لما حصل لجدهم، وزوجة صلاح تقترب من عمها تمسح على رأسه وتقول: "عرض وإن شاء الله يزول هذا الكابوس، وترجع إلينا مشافى معافى".

وجاء الطبيب متأخرا، والساعة تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل، وهو يحمل حقيبته الطبية، وبان على وجهه الاعياء والتعب، وقال "سامحوني على هذا التأخير فالأمر ليس بيدي، فقد وصلت بمعجزة رب قدير، ثم طلب الطبيب أبعاد الأطفال ليتمكن من فحص المريض، وتقديم العلاج المفيد".

فتح فم المريض ونفخ فيه، ثم وضع عليه منظم ضربات القلب فاستيقظ المريض، وعاد ينبض قلبه، وأخذ يئن ويستدير برأسه إلى وجوه الجميع، قال صلاح ماذا حدث له يا طبيب؟

- إن أباك يعاني من ازمة نفسية، سببت له ألما في صدره، وضيق التنفس القصير، وتسارع دقات القلب والرعشة، والحمد لله مرت كل هذه الحالات بسلام، وهو الآن بحاجة إلى الراحة، والابقاء على منظم ضربات القلب إلى أن تزول هذه الأعراض بأحسن ما يكون.

ينظر إلى المريض، وقد أحنى ظهره إليه، ووضع يديه على فراشه، وتحدث إليه بلطف، بماذا تعاني يا أبا صلاح؟

- أعاني ألم لفراق من أم صلاح، صورتها في وجهي وهي تنظر لي بعينيها الهادئتين الرزينتين، أم صلاح رمز الإيثار والشهامة.

يقول الطبيب وقد وضع السماعة على صدر المريض يجس: النبض هذا قضاء الله وقدره، وعليك أن تتوكل عليه، وأن تصبر، مصداقا لقوله تعالى: "ولئن صبرتم لهو خير للصابرين" " سورة النحل: 126".

ويرد أبو صلاح وهو يغمض عينيه ويحرك شفتيه: ونعم بالله، فهو حسبنا لكل ضيق ألم بي، وكأنني أتجرع السم الذي لا يطاق.

الطبيب يشير إلى الحائطين به: انظر إلى هؤلاء كلهم عانوا كما عانيت، زوجة صلاح ذرقت دمعتها صلاح بكى وأوشك على الانهيار، الاطفال عانوا من هذه المحنة وهم أمامك يحملون الشموع ليزيدوا؟إضاءة المكان، وقد اصابهم الفزع، أنا عانيت عند خروجي من منزلي من شدة هذه الظروف لأصل إليك لأنقذ حياتك وحتى هذا "يشير إلى الكلب" باسط ذراعيه بالوصيد، قد عانى ليسعفك، إلا ترى أن هذه الدنيا كفاح مرير ومعاناة فأرحم نفسك وارحمنا معاك، وأن صبرت أجرت، وإن جزعت أثمت، والترحم على أم صلاح حسنات لها، والتأوه يغضب الرب.

ابو صلاح: ربي رحمتك وسعت كل شيء، وأنا شيء، فارحمني وصبرني على هذا البلاء العظيم، ورحم الله أم صلاح الزوجة الأم والأخت الحنون.

صلاح: "وماذا بعد يا طبيب"؟

امسك صلاح الطبيب عند الباب وهو يقول: والدك يعاني من ازمة نفسية لعزله في ملحق بمفرده، وفقد زوجته ضاعف الازمة، فارحه وكن دائما بالقرب منه تحدثه بوعد الشفاء تصحبه في رحلاتك إلى الحدائق والمتنزهات مع الأولاد والزوجة، وهذه معاناة زوالها بالتدريج"





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً