كل من تابع عن كثب حركة الديوانيات والمجالس في محافظة المحرق خلال شهري مارس/ آذار وأبريل/ نيسان الماضيين، لاحظ من دون شك أن خيطا ما يجمع ويربط بين معظم الندوات واللقاءات الحوارية التي أجريت هناك، قاسم مشترك يجمعها، حتى ليخال المرء أن هناك جهة واحدة قد وضعت برنامج هذه الندوات بشكل منسق ومدروس وموجه، ثم راحت توزعه زيادة في الحيطة وإمعانا في التأثير والانتشار.
لقد كانت الوحدة الوطنية محور الحديث، بل وتبوأت عناوين اللقاءات والأمسيات والندوات عموما، وكأن الجميع يستشعر الخطر القادم لهدم جدار الوحدة الوطنية والنسيج الاجتماعي الواحد والمتداخل إلى حد الانصهار في بوتقة عائلية واحدة، لذلك سارع الناس كلهم للوقوف صفا واحدا في وجه هذا العدو البغيض. وأحسب أن أحدا لن يستغرب هذه الهبة والوقفة على أهل المحرق، فلقد كانت الوحدة الوطنية دائما نصب أعينهم وفي ضميرهم يغذون بها أبناءهم ويرضعونها لهم في اللبن صغارا على مدى سنوات طويلة من عمر التعايش والانسجام في بلادنا الغالية.
لكن اللافت في الأمر هو خروج مجموعة من الأصوات النشاز التي تسير عكس هذا التيار الرائع المتماسك، وتسعى جاهدة إلى إثارة الفتنة بين أهل الدار، من خلال ابتكار وافتعال مشكلات من أصغر الحوادث اليومية التي يمكن معالجتها بكل هدوء بعيدا عن الضوضاء والتشويش الإعلامي، بيد أن هذه المجموعة قد ركزت على السعي إلى استغلال هذه المشكلات بكل قوة وعملت على توظيفها لصالح البروز الإعلامي والظهور في صورة الأبطال المدافعين عن حقوق الطائفة والفئة.
إنه أمر يثير الحزن والقلق والشفقة في آن واحد، حين ترى أشخاصا كنت تعدهم وتعتبرهم ممن يخافون على الوطن ويسهرون على وحدته، وإذا بك تفاجأ بمنطقهم الغارق في الطأفنة والتفتيت إلى حد يثير الغثيان ويبعث على الاشمئزاز والنفور، ويصل بك الأمر إلى قمة الاستغراب والدهشة حين تطرح هذه القضايا بنفس مريض وموتور، بدعوى اقتسام مناطق النفوذ ومواقع السيطرة، على طريقة "هذي لنا وهذي لكم"، والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة: من وكلكم للحديث نيابة عن هذه الطائفة أو تلك؟
أحدهم كان يتبنى محاربة التجنيس العشوائي بكل قوة وفي كل مكان، بل إنه بالغ إلى الحد الذي فصل له لباسا غريبا يدعو إلى محاربة التجنيس صورته الصحف وتناقلته وكالات الأنباء أيام الانتخابات السابقة، وكان يقول لنا إن هذا التجنيس شر مطلق وهو موجه ضد الوطن بكامله، الجميع متضرر من هذا التجنيس غير المبرر شيعة وسنة، فإذا به اليوم من أكبر الداعين إلى التجنيس بكل أشكاله، مدعيا بأن التجنيس هو الحل الأمثل للخلل في التركيبة السكانية في البحرين، وأن اللجوء إلى هذا الخيار، قد أصبح في نظره وقناعاته المتبدلة على الدوام هو الحل الأمثل للحفاظ على المكاسب السياسية التي حققها شعب البحرين! ومن ثم الاستمرار في المشروع الإصلاحي، ولست أدري كيف سمح لنفسه بتصنيف شعب البحرين إلى فئتين متقاتلتين؟
هكذا بكل صلافة وقلة حياء يصبح الحل السحري هو تعديل التركيبة السكانية! إن ذلك محض هراء ودعوة جاهلية خرجت في ليلة ظلماء بعيدا عن أعين المخلصين من أبناء هذا الشعب المسالم، ومن دون ريب فإن الرد الأمثل على مثل هذه الدعوات المريضة، مواجهتها بمزيد من التكاتف والتعاضد والتآخي بيننا كمواطنين لا فرق بين شيعي وسني أمام القانون وأمام الواجبات والمسئوليات، كلنا ندافع عن الوطن ونحميه ونفتديه بأرواحنا.
إننا جميعا نكن كل الاحترام والتقدير لمن تم تجنيسهم في السنوات الماضية بصورة طبيعية، ونعتقد أن كل من قبل منهم العيش في هذه البلاد والتعاطي ضمن قوانينها وأعرافها والدفاع عن مكتسباتها ومؤسساتها والتعايش والاندماج في نسيجها الاجتماعي قد أصبح مواطنا ينطبق عليه كل ما ينطبق على أبناء الوطن الآخرين بلا تمييز ولا تفرقة.
أما أولئك النفر القليل ممن تم تجنيسهم فقط بهدف سياسي كأولئك المقيمين والحاملين لجنسيات أصلية أخرى خارج الحدود والذين لا يعودون إلى البلاد إلا في المواسم للتأثير في الانتخابات، أو غيرهم ممن طالب بالجنسية البحرينية من أجل إصلاح وضعه الاجتماعي أو المادي بشكل مؤقت، لتحقيق بعض المآرب التي سرعان ما سيكشفها هو بذاته حين تنقضي غاياته فيعود إلى وطنه الأم محملا بالمغانم المباركة، فإننا ندعو إلى معالجة هذا النوع من التجنيس وفق القوانين والأنظمة والإجراءات الرسمية والقانونية والقرارات السياسية التي تلبي المصالح العليا للبلاد والعباد، بعيدا عن التشنج والانفعال.
وما يلبث المشهد السابق أن تكتمل صورته حتى يخرج علينا شخص آخر استل نفسه من غياهب الفشل والإخفاقات المتكررة ليوجه لنا دعوة مسمومة تنادي بضرورة وجود كتلة تاريخية سياسية سنية تواجه الكتلة التاريخية السياسية الشيعية حتى يحدث التوازن في البلاد وحتى يمكن للوطن أن يعيش سعيدا! عجبا لهذه القراءة الباطلة، كيف تفتقت بها هذه العقلية العبقرية فاكتشف ما لم يستطع غيرها اكتشافه أبدا! بل إنه ونفر قليل ينادون بصوت مخيف، بأهمية عدم ترك الساحة السياسية تستفرد بها طائفة دون أخرى، وما يلبث أن يعبر عن خشيته من تكرار ما يحدث في العراق وانعكاسه على البحرين!
هكذا في لمح البصر صار المطلوب في نظر هؤلاء أن تتواجه الطائفتان الشيعية والسنية حتى تنصف إحداهما الأخرى، وبينما نحن في سجال ودوار من عظم المصيبة يخرج علينا بطل إغريقي آخر، مقدما سؤالا كريها ذا رائحة نتنة ينبئ بعقدة نقص كبيرة، ونوايا سيئة ماكرة تتحرق شوقا إلى إشعال فتيل الفتنة الطائفية التي تم وأدها منذ زمان، فيقول "السنة خايفين من الشيعة... يعني بصراحة نبغي نعرف هل أنتو عندكم خطط ومشروعات للاستيلاء على الحكم"، ومن دون سابق إنذار يتبرع شخص آخر فيقدم شرحا أكثر وضوحا "يعني عندكم أجندة سرية".
يعم الصمت أروقة المكان ويبدو جليا أن هناك متهما قد وجهت إليه حزمة من الأسئلة المباغتة، لكن الملاحظ أن هذه الأسئلة والتهم موجهة إلى طائفة بكاملها، ومن دون الخوض في تفاصيل الإجابة التي تولى القيام بها بعض الحاضرين، يتبادر إلى الذهن هذا السؤال: إلى متى يظل التشكيك في الولاء لهذا الوطن قائما؟ ماذا يريد البعض من دليل؟ كيف يعيش الإنسان عزيزا وكيف يكون كريما في وطنه وهو يواجه بالتشكيك في وطنيته ونواياه يوميا من قبل أي شخص يرغب في استفزازه مهما كان هذا الشخص مهما أو تافها؟
هل يتوقع أحد أن يواجه التشكيك في الانتماء للوطن بتعاطف من قبل المشكك بهم؟ وهل من حق أحد كائنا من كان، أن يشكك في ولاء طائفة وطنية تشكل مكونا أساسيا من مكونات مجتمع البحرين ويطالبها دوما بإثبات حسن نواياها وصدق انتمائها للوطن؟
وقبل أن أجد إجابة شافية على هذا السؤال المشروع، استمع معكم إلى أحد المتداخلين في إحدى الندوات المحرقية، وهو يقسم المجتمع في البحرين إلى طبقات وفئات، ثم يقوم بإعادة ترتيبها بشكل مقزز فيقول "من المعروف أن البحرين مقسمة إلى طبقات: الطبقة الأولى الأسرة الحاكمة، الطبقة الثانية الشيعة، والطبقة الأخيرة السنة". ثم يكمل هذا الرجل بيانه الختامي فيقول: "إحنا خايفين "يقصد السنة" ونبي من الإخوة الشيعة يطمئنونا".
حين تسمع هذا الكلام تعتقد بأن هناك ميليشيات شيعية مسلحة توشك أن تسيطر على البحرين بكاملها، وتقول في نفسك: سبحان الله، أثناء حوادث التسعينات لم تصل الأمور إلى هذا المستوى من التناقض، ولم يتجرأ أحد أن يبث سمومه الطائفية بهذا الشكل، فلماذا الآن والأمور كلها تسير إلى التوافق؟ لماذا الآن والنقاشات والحوار محتدم بين جميع الفرقاء والشركاء في الوطن؟ لابد من وجود سر ما؟
وسرعان ما نكتشف أن هناك من يلعب بالنار عامدا ليحقق أجندته الخاصة، نعم هناك أشخاص مصابون بالحول السياسي الذي يكاد أن يتحول إلى عمى ألوان وهم يسعون إلى إشعال فتيل الفتنة الطائفية في البحرين كافة وفي المحرق على تحديدا، ليتسنى لهم أن يلعبوا في الميدان كيف يشاءون، محاولين الظهور في صورة البطل المدافع عن الطائفة والمنتصف لها، حتى يضمنون شيئا من الاستحقاقات في الانتخابات المقبلة؟ وربما في مجلس الشورى، أو أي من المجالس الأخرى أو الهيئات والمواقع القيادية الرسمية أو الأهلية.
ما هكذا تورد يا سعد الإبل، وما هكذا يتم الترويج للشخصيات التي تريد أن تتسلق لتصل بأي ثمن، ومهما حاول دعاة الفتنة النيل من وحدة أبناء البحرين في المحرق، فإنهم سيفشلون حتما، لأن أبناء البحرين في المحرق عجنتهم الدنيا والتجارب، وعرفوا أن الوحدة الوطنية هي الصخرة التي تتكسر عليها كل المؤامرات الدنيئة الرامية للنيل من الوطن.
إن هذه الأصناف من البشر لن تستطيع دق اسفين الفتنة الطائفية في المحرق، ومهما ارتفع صراخهم وعلت أصواتهم النشاز منادية للحرب المقدسة، فإن هذه الدعوات لن تلقى صدى في نفوس أهالي المحرق الباسلة التي عاشت سنين طويلة لا تفرق بين شيعي وسني حتى في اللهجات أو المصاهرة والأنساب. لقد تنبه الجميع إلى هذه الممارسات المغرضة ولن تنطلي حبالها على أحد.
المحرق التي خرج من بين أبنائها قادة للوطن في هيئة الاتحاد الوطني، وقادة لنضال شعب البحرين في كل انتفاضاته وثوراته منذ ما قبل ثورة الغواصين وإلى الآن، تسلم الراية إلى رجال أشداء مخلصين يحبون الوطن ويذوبون فيه وبين أهله، لا يفرقون بين مواطن وآخر بسبب اللون أو العرق أو العقيدة والانتماء المذهبي. هذه المحرق لن تسلم قيادها للمفتونين بعضلاتهم وبقدرتهم على صوغ الكلام المضلل، ولن تسلم قيادها إلى أولئك المتأهبين لركوب أية موجة توصلهم إلى المناصب العليا، ولن تسلم قيادها إلى من يريد أن يذبح الوطن والوحدة الوطنية على مذبح المصالح الشخصية.
نعم، المحرق عزيزة بأهلها وأبنائها، تعرف كيف تصوغ سيمفونيات التناغم الوجداني بين أبناء الوطن الواحد، ولن يجبرنا على غير ذلك أحد. إنها دعوة إلى الاحتكام للمؤسسات الرسمية، والتلاحم في المؤسسات الأهلية حتى نفوت الفرصة على المغرضين. نعم إننا مطالبون بأن نلجأ إلى مؤسسات الدولة إذا حدث بيننا أي خلاف، لأننا نطالب دائما بدولة القانون والمؤسسات، لذلك علينا أن نعزز هذا النهج، وألا نسعى إلى الاحتكام إلى لغة الشارع والعضلات وتوتير الأجواء حد الاحتقان.
كما أننا مطالبون بدعم وتشجيع قيام المؤسسات والجمعيات والمشروعات الأهلية المختلطة التي تعتمد المواطنة بعيدا عن الانتماء الطائفي، وحبذا لو تبادر المؤسسات الأهلية العاملة في المحرق لعقد لقاءات تنسيق وتشاور للتباحث بشأن أهم الوسائل الممكنة لتعزيز وحدة الصف وتجنب المعارك الطائفية الوهمية، التي يسعى إليها المغرضون أيا كانت انتماءاتهم المذهبية
إقرأ أيضا لـ "محمد حسن العرادي"العدد 969 - الأحد 01 مايو 2005م الموافق 22 ربيع الاول 1426هـ