يبدو أن الملف اللبناني لم يقفل حتى الآن. فالانسحاب السوري أنهى مرحلة مديدة من تاريخ البلد، ولكنه لم يقفل النقاش الداخلي على مجموعة نقاط لاتزال الدول الكبرى تضغط على بيروت لتنفيذها.
الملف إذا سيشهد المزيد من التطورات في الشهور المقبلة وخصوصا أن الدول الكبرى "أميركا وفرنسا تحديدا" تتذرع بالقرار الدولي 1559 كإطار لممارسة الضغوط على دولة ضعيفة تعاني موازنتها من مشكلات بنيوية تتعلق بمسألة الديون التي ترهق النقد الوطني، وتستنزف احتياط الدولة من العملات الصعبة.
ومن خلال قراءة المشهد اللبناني يمكن القول إن الدولة ستمر في صعوبات سياسية داخلية تحتمل الكثير من التفسيرات والتوقعات. فالدولة الآن مطالبة بتنفيذ ما تبقى من فقرات تضمنها القرار ،1559 وأمامها فرصة قصيرة للمباشرة في التنفيذ. فهناك أولا الانتخابات النيابية التي يجب أن تنتهي منها قبل نهاية شهر يونيو/ حزيران المقبل. وهناك ثانيا تشكيل حكومة جديدة تعكس ذاك التوازن الذي ستسفر عنه الانتخابات. وهناك ثالثا تعاون الحكومة مع مجلس الأمن في ثلاث نقاط مهمة تتصل بسحب الأسلحة من الميليشيات اللبنانية، ثم سحب الأسلحة من الميليشيات غير اللبنانية، وأخيرا متابعة أنشطة لجنة التحقيق في جريمة اغتيال رفيق الحريري.
كل هذه الموضوعات مطلوب من حكومة جديدة التعاون على تنفيذها أو على الأقل البحث مع المراجع الدولية في الوسائل الكفيلة بتطبيقها من دون الاخلال بالأمن الوطني و"العلاقات المميزة" مع سورية اضافة إلى ضمان حدودها الجنوبية مع "إسرائيل".
المطالب إذا ثقيلة ويصعب على أية حكومة حملها دفعة واحدة بغض النظر عن النتائج التي ستسفر عنها الانتخابات اللبنانية. فتجريد "الميليشيات اللبنانية" يعني فتح باب الحوار مع حزب الله لبحث هذه المسألة المعقدة. كذلك تجريد "الميليشيات غير اللبنانية" يعني محاولة التفاهم مع المسئولين الفلسطينيين في المخيمات لوضع صيغة تضمن استقرار حياة المواطنين من دون استبعاد مخاطر التدخلات الإسرائيلية. حتى مسألة ضمان الحدود الدولية مع "إسرائيل" تتطلب الكثير من المعالجات لضبط تلك المخاطر الناجمة عن الاعتداءات المتكررة، ووقف العدوان الإسرائيلي على قرى الجنوب والمخيمات الفلسطينية.
مثل هذه المطالب الثقيلة تتعامل معها الدول الكبرى بخفة وعدم مسئولية، وتنظر إليها من وجهة إسرائيلية. فالدول الكبرى التي تستخدم القرار 1559 كوسيلة للضغط، وتمارس من خلال ما تبقى من فقراته التدخل المباشر في شئون لبنانية تقرأ تلك المشكلات وكأنها نتيجة لظروف داخلية ولا صلة لها بالأوضاع الإقليمية. فالدول الكبرى في مجلس الأمن تعتمد الحلول اللبنانية لمشكلات ليست لبنانية أصلا بل هي نتاج مضاعفات إقليمية لعبت خلالها "إسرائيل" الدور الأساس في توليدها.
المصيبة في سياسات الدول الكبرى انها تضغط على الدولة اللبنانية لتنفيذ ما تبقى من فقرات يتضمنها القرار الدولي، وتتجاهل الأسباب التي أدت إلى إنتاج مثل تلك المشكلات. والمصيبة الأخرى في تلك السياسات الدولية انها تدرك أن عملية التنفيذ تعني المزيد من الضغوط على الحكومة الجديدة للدخول في مواجهات محتملة لا يقوى الوضع اللبناني على تحمل تداعياتها السلبية. فأي خطأ في الحسابات ربما يستدرج القوى المحلية إلى اشتباكات قد تهدد الاستقرار، وتدفع الجماعات إلى تصادم أهلي يزعزع السلم الداخلي. وهذه المخاطر المحتملة يبدو أن الدول الكبرى لا تكترث لتداعياتها، كما يظهر من تصرفاتها واصرارها على مواصلة الضغط من دون انتباه إلى السلبيات. فما هو مطلوب من الحكومة يتجاوز قدراتها على تلبية رغبات الدول الكبرى، لأن المطلوب يتجاوز حدود المعادلة المحلية، ويقحم لبنان مجددا في دائرة الصراع الإقليمي الذي تدعي دول مجلس الأمن أنها تريد إخراج البلد منه.
الملف اللبناني لم يقفل حتى الآن، وتبدو أوراقه مشرعة لمزيد من الضغوط الدولية وهي في النهاية قد تفتح الأوضاع الداخلية على أبواب اغلقت بعد توقيع اتفاق الطائف، وأعيد فتحها مجددا من دون اعتبار لمصالح لبنان وحساسيات مجموعاته الأهلية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 968 - السبت 30 أبريل 2005م الموافق 21 ربيع الاول 1426هـ