يروي زميل صحافي عراقي كان يعمل في الكويت أنه كان خارجا من عمله بعد الواحدة والنصف فجرا عندما اوقفه رجل امن. كان ذلك في الثمانينات التي شهدت أوضاعا امنية متوترة بلغت ذروتها مع محاولة اغتيال الامير الشيخ جابر الأحمد الصباح في العام 1985 فيما كان هدير المدافع مستمرا على جبهة الحرب بين العراق وايران.
سأل رجل الأمن صاحبنا عن السبب في خروجه في هذه الساعة المتأخرة من الليل. رد صاحبنا بأنه خارج للتو من مقر عمله بالصحيفة وذاهب الى منزله. سأله رجل الأمن من جديد: لماذا تعمل الى هذه الساعة المتأخرة من الليل؟ اجاب: إنني اعمل في قسم الإخراج والليلة كنت أعمل على الصفحة الأولى. صمت رجل الأمن قليلا وراح يحدق في وجه صاحبنا بغضب قبل أن يصدر اوامره: "في المرة القادمة عليك أن تنجز عملك في الصفحة الأولى في النهار وليس في الليل".
اذا رويت هذه القصة للصحافيين فسيقعون على ظهورهم من الضحك لأنها تنم عن جهل لا يغتفر بطبيعة العمل في الصحافة. ولو تعرض طبيب مناوب لمثل هذا الموقف فسنحظى بنكتة اضافية وقس على ذلك أي مثال يخطر على البال.
السؤال: كيف ندلي بآرائنا في مختلف الميادين؟ ما الاسس أو الدوافع التي تجعلنا نطلق الآراء ووجهات النظر في هذا المجال أو ذاك؟ هذا السؤال معني به الصحافيون الذين يتناولون كل شيء في حياتنا، من القضايا الكبرى حتى ادق التفاصيل التي قد لا تخطر على بال. لكن هل هم الصحافيون وحدهم المعنيون بذلك؟
ربما تنبهنا قصة زميلنا العراقي الى رجال الأمن. ألا يتعين أن يملك هؤلاء حدودا معقولة من الفهم في ميادين شتى طالما أن مهمتهم تجعلهم في قلب مواقف لا تحصى، من الأمن السياسي الى الأمن اليومي في الشوارع، أي بعبارة اخرى السهر على أمن مجتمع بكامله بكل ما فيه من تنوع هائل في مختلف الميادين وحياة تتجه للتعقيد يوما بعد آخر؟ ألا تقتضي مهمة كبرى كحفظ الأمن أن يملك القائمون عليه اوسع الفهم والمدارك في شئون وميادين مختلفة؟
نعم هناك التخصص وهناك التطوير الذي يقتضي منا احيانا استحداث ادارات جديدة وتخصصات جديدة، لكن هناك ايضا تعميم المعرفة الى اقصى حد ممكن. في السبعينات كان رجال الشرطة يدعون إلى دورات في محو الامية ويمنحون العلاوات اذا ما اجتازوا ذلك التأهيل. والصيف الماضي، تساءلت عما اذا كانت الشرطة تملك حواسيب وقاعدة بيانات، أما اليوم فإن سيارات الشرطة التي تغيرت ألوانها الى لوني العلم الوطني الأحمر والابيض باتت مجهزة بالحواسيب. لكن هل يكفي هذا للاطمئنان بأن رجال الشرطة أو غيرهم يعرفون طبيعة عمل الصحافة؟
أسوق الصحافة مثالا، لأنها تمسنا جميعا، لكن الصحافة نفسها ليست بمنأى عن السؤال، هل تملك صحافتنا تلك الحدود المعقولة من الفهم لطبيعة العمل والمقتضيات في مجالات اخرى؟ وهل يملك كل الذين يدلون بآرائهم في مختلف الميادين هذا الحد المعقول من الفهم والادراك وهم يتصدون لقائمة طويلة لا تحصى من القضايا؟ في الندوات وفي الصحف نفسها، تجد متحدثين متكرري الظهور يستفتون في كل شيء.
لا يتعلق الامر بابداء الرأي فقط بل بصنع القرار أيضا. قبل شهور اشتكى اولئك الشبان من مشرفي موقع "بحرين أون لاين" الذين سيقوا الى المحاكمة من أن هناك صعوبة في شرح بعض القضايا التقنية المحضة المتعلقة بشبكة الانترنت للقضاة. نحن هنا نتحدث عن مصير ثلاثة شبان يواجهون احتمالات ليس أقلها السجن، فهل يمكن أن يتم التعامل مع هذا الجهل بطبيعة الاشياء على أنه امر اعتيادي؟
البرلمانيون ايضا في القائمة بل لعلهم على رأسها وهم يجسدون المشاركة في صنع القرار مع الحكومة. إن مهماتهم تقتضي منهم هذه الحدود المعقولة من الفهم والادراك لحياة تزداد تعقيدا وتشابكا كل يوم. أما حياتنا السياسية المستجدة، ففيها الكثير مما يجعلها تقترب من مثالنا ذاك. واذا كان الاستدراك لن يتأخر بأننا مازلنا في بداية التجربة وخارجون من فترة قمع طويلة، فإن هذا جدير بأن يوقظ فينا الرغبة في التعلم وترسيخ تقاليد عمل رشيد في السياسة بعيدا عن الاساليب السهلة مثل اصدار البيانات وتسيير التظاهرات.
في مثال القضاء، ثمة تقليد قضائي وعدلي راسخ: الاستعانة بالخبراء. لكن الخبراء ليسوا قضاة أو قانونيين وهم بالنهاية معرضون لكل ما يمكن أن يتعرض له أي انسان من تأثير واهواء ومصالح. وبامكاننا أن ندرك الفارق جيدا عندما يكون رجال القانون والقضاة يملكون هذا الحد اللازم من المعرفة في تخصصات مختلفة وبين أن يستعينوا بالخبراء. لكن القضاة على الأقل يحترمون مقتضيات العدالة فيلجأون لأهل الاختصاص توخيا لشروط العدالة في التقاضي امام الخصوم.
ها نحن قد وصلنا الى التخصص. وأبسط ما يمكن أن يقال هنا إنه اذا كان هناك من ميدان أصبح مثل "الجدار المائل" أو بعاميتنا "الطوفة الهبيطة" فهو الصحافة. الكل يفتي في الصحافة والكل يقدم المواعظ والدروس فيما يتعين على الصحافة فعله وما يتعين أن تقوم به. ليست الحكومة وحدها هي التي تقوم بذلك وترسم الحدود امام الصحافة بل وتمضي اكثر لوضع القيود عبر القوانين والتشريعات، بل المجتمع بأسره بكامل اطيافه ونخبه وشرائحه. السبب واضح: حساسية عالية من النقد.
لكن الصحافيين لا يجلسون على تلة اخلاقية هنا، فهم مسئولون الى حد كبير عن هذا التردي الهائل في المستوى الاحترافي لصحافة مضى على نشأتها 66 عاما. القائمون على الصحف مسئولون عن تردي التقاليد المهنية والقيم التي تحكم الصحافيين في عملهم، إنهم مسئولون عن ضياع حد ادنى من التضامن المهني الذي يمكن أن يصنع صحافة محترفة ومؤثرة. مسئولون عن تدهور مستواها الاحترافي وجعلها "طوفة هبيطة" لأنهم إن برهنوا على شيء فليس اكثر من استعدادهم وميلهم للخصومات اكثر من استعدادهم للدفاع عن مهنتهم وعن العاملين فيها وتطوير مستواها
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 967 - الجمعة 29 أبريل 2005م الموافق 20 ربيع الاول 1426هـ