قعد المعري في المعرة إلى جوار أمه قرابة 15 سنة. وفي تلك الفترة بدأ يقول الشعر ويتفلسف وينتقد عصره. ففي عالم المعري الداخلي مجموعة عوالم متعارضة عجز عن توحيدها وجمعها في نسق فكري متكامل. فمدرسته أشبه بكشكول فكري انصبت في داخله مجموعة روافد استقت مصادرها من اتجاهات مختلفة. فهو أخذ عن اليونان الفلسفة "تقديس العقل"، وعن البوذيين "الزهد"، وعن المزدكية الظلمة "الدهر الأعمى"، وتأثر بالإسماعيلية التي ازدهرت في عصره وانتشرت في منطقته.
من كل تلك الروافد لم يحسم المعري مواقفه وفشل في تحديد اتجاهه. فعالمه الداخلي عالم الظلمة وهو يغالبه ويصارعه، وعالمه الخارجي عالم العقل الذي يرشده ويدله. وبين الظلمة والنور عاش المعري حالات من التمزق انعكست على شخصيته المتوترة وطبعه المزاجي. فهو عقلي الاتجاه وفي الآن متردد وحائر وضائع وغير منسجم، وينقصه التماسك الذي يسعفه في تأسيس قواعد انطلاق لوحدة تفكيره. فهو ينتقد كل شيء ولا يعطي البديل. ومزاجه السلبي دفعه إلى المزج بين التقليد والنقل عن الفلسفة. فعالم المعري عالم خاص ومفتعل أحيانا. فهو يقول الشيء وعكسه. ويقول بالاختلاف ويختلف مع الواقع المضطرب. فمن جهة يؤمن بالله ويصلي ويميز بين الإسلام ومظاهر التدين في عصره. ومن جهة يؤمن بالعقل وليس عقلانيا حين تسيطر انفعالاته على عقله. لذلك تميز بالتناقض الدائم والتعارض في مواقفه من دون ان يتخلى أحيانا عن ثوابته. فالقدر عنده أعلى من العقل، والعقل دليل الإيمان، والإيمان عنده هو الانسجام.
مسألة الانسجام شكلت معضلة منهجية عند المعري، فالانسجام مستحيل في الواقع. فالعالم متعارض بطبعه، والانسجام عند المعري هو الظلمة. فالظلمة في عالمه الداخلي تشكل الانسجام المطلق، ولكنها في عالم الإنسان تعتبر غير واقعية. الظلمة أثرت كثيرا على المعري ونسجت من بعيد عالمه الداخلي. وهذا شكل مصدرا لتوتره وقلقه الدائم بين عالمه الخاص ومنهج العقل. فالعقل يبحث عن الحقيقة وحتى يصل إليها لابد ان يعترف بالتناقض والاختلاف وتقبل التنوع. المعري كان يؤمن بالعقل ويعارض وظائفه وتحديدا وظيفة البحث عن التناقضات.
بين انسجام الظلمة وتعارض العقل تقلب المعري كثيرا وازدادت اضطرابات عالمه الداخلي. فصاغ نظرة سلبية عن الحياة واحتقر الدنيا وانتقد علماء عصره واتهم الوعاظ بالكذب وشتم شعراء زمنه واتخذ مواقف سلبية ضد المرأة "فهي مصدر الشر والفتنة" وحرم على نفسه الزواج واتجه نحو التشكيك في كل شيء.
هذه الشخصية الانقلابية "المزاجية" اورثت المعري خصومات وزادت من عزلته وشجعت خصومه للرد عليه. فاتهم بالكفر والإلحاد، وقيل عنه انه إسماعيلي المعتقدات، وقيل انه قرمطي التوجهات، وذكر أنه على اتصال خفي بحلقات اخوان الصفا. ودفع هذا الهجوم المضاد بالمعري إلى التفكير بالانتقال إلى مكان آمن بعد أن زرع الخلافات حوله، فقرر الذهاب إلى بغداد متذرعا بشوقه إلى خاله أبي طاهر.
بلغ المعري الآن 36 سنة من عمره وبات في وضع صعب لا يحسد عليه فهو غير قادر على تدبير أموره وإعالة أمه، فحسم أمره وقرر اللجوء إلى خاله الذي يمتهن التجارة ووضعه المالي مريح إلى حد ما.
قرار مغادرة المعرة لم يكن كله لاسباب شخصية ومعاشية. فهناك جملة عوامل منها طموحه إلى الاتصال بالحلقات البغدادية والتعرف على أجواء مناقشاتها الفكرية والفلسفية، ومنها أيضا هربا من الحياة السياسية المضطربة في بلاد الشام. فبين عودته إلى المعرة في العام 384هـ "994م" وقرار مغادرتها في العام 398هـ "1007م" حصلت في بلاد الشام وجوارها سلسلة تطورات ستكون لها تأثيراتها السياسية والفكرية على المنطقة. ففي مصر الفاطمية بدأ الحاكم بأمر الله بحكم الدولة في العام 386هـ "996م"، وأخذ يفكر بفرض سيطرته على دمشق وحلب وتقويض الدولة الحمدانية، ونشر أفكاره التي عرفت بعض النشاط عقب انشاء دار الحكمة في القاهرة في سنة 395هـ "1005م". ومنذ تلك اللحظات دخلت المنطقة في مواجهات عسكرية ضد القرامطة من جهة والحمدانيين من جهة أخرى. وترافقت المواجهات مع بدء الدعوة إلى تأييد التوجهات الفاطمية لتركيز المواقع الجغرافية وهي ضرورية لتحدي نفوذ الخلافة العباسية التي كانت بدورها تخضع لسياسات دولة بني بويه. هذه الفضاءات المشحونة بالتوترات العسكرية الدائمة والدعوات الايديولوجية شكلت ذرائع إضافية للمعري لحسم قراره بالتوجه إلى بغداد.
زار المعري عاصمة الرشيد مرتين: الأولى في سنة 398هـ استطلع خلالها الأجواء، ووجد فيها ذاك المكان الذي يمكن ان يستقر فيه. فعاد إلى المعرة لزيارة امه وبعدها قرر الذهاب إلى بغداد ثانية في سنة 399هـ "1008م" والمكوث فيها نهائيا.
قرار الزيارة الثانية لم تكن كل أسبابه تتعلق بوضعه الشخصي وطلبه للمعاش والاستقرار، وإنما أيضا كان يتصل بظروف بلاد الشام واضطراب أوضاعها السياسية. ففي تلك السنة نجح الحاكم الفاطمي في إنهاء حكم الدولة الحمدانية في حلب، واستفاد من موقعها لبدء نشر دعوته السرية في بعض أرجاء بلاد الشام.
هذه الانقلابات لم تكن تناسب طبيعة المعري المتناقضة. فهو عقليا شخص مشاكس، ونفسيا يميل إلى الاستقرار العام انسجاما مع تجانس عالمه الداخلي. وبين النزعتين تذرع المعري بوجود خاله في بغداد، وقرر الرحيل نهائيا إليها بحثا عن مكان يجد فيه متسعا لأفكاره واجتهاداته.
مكث المعري في بغداد سنة وسبعة أشهر. وهناك اتصل بالحلقات الفكرية وحضر نقاشاتها وتعرف على فلسفة فيثاغورس "علوم العدد" فازداد تخليطه الذهني وكثرت مشاكساته نظرا لما عرف عنه من جرأة في البوح بما يؤمن به وصراحته في النقد والمواجهة. وكل هذه الأمور جلبت له المزيد من الاتهامات بالزندقة والكفر والإلحاد وهذا ما زاد من عزلته فوجد بعد حين ان بغداد ليست المكان المناسب للعيش فيها.
تعرض المعري للكثير من المشكلات وواجه اتهامات نالت من سمعته ومكانته. فبغداد آنذاك كانت تمر في فترة انتقالية بين تحكم بني بويه بالسلطة وقيادتها للقرار السياسي نيابة عن الخليفة العباسي وبين نمو حركة سلفية "أصولية" في الشارع تقود المعارضة وتؤسس شبكة حلقات مضادة للحكم. فالدولة البويهية آنذاك كانت تشهد بداية هبوطها بينما المجتمع بدأ يشهد نمو اتجاهات سلفية انتشرت في مدارس مهدت الطريق لاحقا للتغيير.
في هذه الفترة الانتقالية بين هبوط موجة "الحداثة" التي رعتها آنذاك الأسرة البويهية وصعود الحركة الأصولية كقوة سياسية معارضة لتوجهات الدولة الرسمية عانى المعري سلسلة اضطرابات تتوجت أخيرا في ذاك الاصطدام الذي حصل معه في مجلس الشريف الرضي.
الشريف الرضي "محمد بن الحسين" كان آنذاك نقيب الأشراف الطالبين. شاعر ولد في بغداد في العام 360هـ "970م" وتوفي فيها في العام 406هـ "1016م" وعرف عنه حرصه على الدين وتقواه. وكان له الفضل في جمع خطب الإمام علي بن ابي طالب "رض" في كتاب اطلق عليه "نهج البلاغة". فالرضي وشقيقه المرتضى "علي بن الحسين" من الأدباء والمتكلمين وأصحاب مؤلفات ومواقف عرفت بالتزامها الديني. ومثل هذه الصفات المتمثلة في شخص الشريف الرضي "وشقيقه المرتضى" كان من الصعب عليه تقبل التخليط الكلامي الذي صدر عن المعري في مجلسه.
الرواية المنقولة تقول ان سبب الخلاف مع الرضي كان على شعر المتنبي. فالمعري دافع عنه والشريف انتقده وحصلت مشادة أهان المعري خلالها الرضي فأمر الأخير بطرده من مجلسه.
هذا الجانب من الرواية قد يكون تلك النقطة التي طفح بها الكيل. إلا ان الجانب الآخر هو اتهام المعري بالإلحاد والزندقة. وهذا يعني ان النقاش تعرض لنقاط أخرى، وغير مستبعد ان يكون المعري تطاول خلاله على أصول دينية ومعتقدات إسلامية أوجبت على الشريف الرضي طرده من مجلسه. فنقيب الأشراف الطالبين مهما بلغت به السماحة والتسامح يصعب عليه الاستماع إلى كلام تختلط فيه المفاهيم الفلسفية بالمعتقدات الدينية. ويرجح ان يكون سبب الطرد يعود إلى تشكيك المعري ببعض الأصول والقناعات وليس بسبب نقد الشريف لشعر المتنبي ودفاع المعري عنه.
اكتشف الشاعر/ الفيلسوف بعد طرده من مجلس الرضي انه يعيش في المكان الخطأ والزمن الخطأ. فبغداد كانت آنذاك تمر في فترة انتقال من أجواء تسيطر عليها فضاءات "الحداثة" إلى فضاءات مختلفة تدفع الشارع بهدوء نحو موجة تقودها حركات أصولية "سلفية" ستطيح لاحقا بدولة بني بويه.
طرد المعري من مجلس الرضي ومهما كانت أسبابه المباشرة أرسل إشارة واضحة إلى شاعر المعرة بإعادة التفكير في زمنه وعناصره الجديدة الطاردة لتلك الأفكار التي تثقف عليها في حلب وانطاكية واللاذقية وطرابلس. فهناك في بغداد بدأت ملامح عالم جديد يولد ولم يستطع المعري ان يدركه إلا بعد فوات الأوان... فقرر الرحيل والعودة مجددا إلى موطنه: المعرة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 966 - الخميس 28 أبريل 2005م الموافق 19 ربيع الاول 1426هـ