ما الذي يجعل سيدة تترك شئون بيتها لمدة يومين، لتقف على رجليها من الصباح حتى المساء، لتشارك ابنتي أختها الشابتين في عمل لوحة فنية على جدار في قرية من القرى المنسية؟ ما الذي يجعل سيدة أخرى تدرس في الجامعة، سنة ثالثة، وهي أم لثلاثة أطفال، تصطحب أطفالها معها لمدة ثلاثة أيام، لترسم لوحة فنية أخرى عن الألعاب الشعبية القديمة مقابل قلعة البحرين؟ ما الذي يجعل هذه السيدة المزدحمة بالمسئوليات العلمية والعملية، لمغادرة قريتها والمجيء إلى القلعة لرسم هذه الجدارية؟ ما الذي يجعل امرأة عاملة وهي طالبة جامعية أيضا، تصطحب طفلها الرضيع معها، تحمله حينا وتحمل الريشة حينا آخر، لترسم لوحة عن تراث البحرين الممزوج بالحضارة؟ ما الذي يجعل شابة جامعية مقبلة على فترة امتحانات، تترك كتبها الدراسية لتتفرغ لرسم نخلتين وجدول ماء؟ بل ما الذي يجمع 50 فنانا وفنانة من مختلف الأعمار والمناطق والمدارس الفنية، على مدار ثلاثة أو أربعة أيام، للعمل في مشروع الجداريات؟ ما الذي يجمع عددا من الجمعيات الفنية المختلفة المشارب والاتجاهات للاتحاد معا في إنجاح هذا المهرجان الفني المفتوح؟ بل ما الذي يدفع هؤلاء الأفراد للتضحية بيوم إجازتهم الأسبوعية واليومين التاليين، والوقوف تحت أشعة الشمس لساعات طويلة وقت الظهيرة لإنجاز هذه اللوحات؟ هل هناك شيء آخر غير حب الوطن والولاء لهذا التراب؟ وهل يمكن أن يشترى مثل هذا الولاء بالمال؟ هل يمكن أن يشترى مثل هذا الإخلاص بكنوز الدنيا؟ من لا يفهم غير لغة المال سيقول: نعم، كل شيء يمكن شراؤه بالمال، أما نحن فنقول: إلا "حب الوطن"، فهو "من الإيمان" كما قال النبي الأكرم "ص".
يقولون نعم، الأوطان يمكن بيعها وشراؤها بالمال، أما نحن الذين ليس لنا وطن غير هذه الأرض، فنقول: إن كل كنوز الدنيا لا تساوي قبضة من تراب الوطن. ومع ذلك سيظل أبناء هذا الشعب مطالبين على الدوام بإثبات حبهم لهذا التراب، وتقديم الأدلة بعد الأدلة، والإثباتات بعد الإثباتات، على وجود واستمرارية وتواصل هذا الحب! ومتى فارقهم حب الوطن حتى يطالبوا بإثباته؟
قيس بن ذريح، لم يسأله أحد عن دليل حبه للبنى، وقيس بن الملوح لم يطالبه أحد بإثبات حبه لليلى، وجميل لم يطالبه أحد تكرارا تقديم آيات حبه لبثينة، إلا شعب البحرين الذي يتهم في حبه وعشقه لهذا الوطن
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 966 - الخميس 28 أبريل 2005م الموافق 19 ربيع الاول 1426هـ