أكد آية الله السيد محمد حسين فضل الله، أن الغرب بمعظم إداراته السياسية ينافق عندما يتحدث عن دعمه لأي عملية تحول ديمقراطي في المنطقة، لأنه يريد التحول الذي يقود إلى الاستلاب و"الأمركة". وحذر من سعي إلى اختراق أوسع للساحة الإسلامية سياسيا واقتصاديا وأمنيا، مناشدا السنة والشيعة حماية وحدتهم الداخلية ومقوماتهم العقائدية والمادية، قبل أن يسحب الغرب البساط من تحتهم، فلا يبقى للمسلمين من حضور بين الأمم.
جاء ذلك ردا على سؤال في ندوته الأسبوعية عن آفاق ومصير الوحدة بين السنة والشيعة؛ وفيما يأتي الجواب.
"حرص الإسلام على أن يحيط الأمة بسياجين رئيسيين يمثلان نجاتها في الدنيا والآخرة، فكان السياج الأول من خلال علاقتها بالله تعالى بكل ما تعنيه كلمة التوحيد من التزام عملي من الأمة بألا تشرك بالله أحدا، وانطلق السياج الثاني على أساس توحيد الكلمة، بما يعنيه من التزام قولي وسلوكي وعملي لحفظ توازن الأمة الداخلي وتماسكها الذاتي في مواجهة كل الأعداء والمتربصين بها الدوائر. ونجد أن النبي الأكرم "ص" كان يتشدد دائما في منع أي خلل من شأنه أن يمس بالاجتماع الإسلامي العام، أو ينال من أهمية الجماعة وتماسكها، لأن فيه تأكيدا لحماية عنصر القوة والمنعة الذي يحميهم من تسلط الأمم عليهم، وحماية لواقعهم ومقومات وجودهم واستمرارهم وتأكيد المسئولية الكبرى الملقاة على عاتقهم كونهم الأمة المقومة للمسار الإنساني العام بلحاظ القيم الكبرى التي تحملها، والتي يريد الله تعالى أن يجعلها عنوانا للبشرية في حركتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية وما إلى ذلك.
إن الإسلام يريد لهذه الكتلة البشرية التي يتجاوز عددها مليار نسمة أن تكون القدوة في نشر المفاهيم والقيم الرسالية في العالم، ولن تتمكن هذه الكتلة المتنامية جسديا وبشريا من أن تقوم بهذه المهمة الكبرى ما لم تكن متماسكة من الداخل، لا بل إنها ستكون عاجزة عن حماية نفسها من الآخرين آنئذ لأن في الجماعة رحمة وفي الفرقة عذابا وتشتتا وضياعا. ثم إن المسلمين على تنوعهم المذهبي يشكلون أمة واحدة في ركائزها العقائدية والتشريعية، وكذلك في معنى المصير المشترك، ومع كل ما قد نراه من خلافات بين السنة والشيعة، فإننا لا نستطيع أن نجد أحدا أقرب إلى الشيعة من السنة والعكس بالعكس، لأن المسألة في الحسابات الإسلامية واحدة، ولأن الخلافات تبقى داخل الإطار الإسلامي العام، وفي سياق حركة الاجتهادات التي قد يختلف فيها علماء الشيعة بعضهم مع بعض كما قد يختلف فيها علماء السنة بعضهم مع بعض، وقد نجد اتفاقا بين علماء من الشيعة مع علماء من السنة داخل هذا الإطار الإسلامي بما لا نجده داخل المذهب الواحد.
ولذلك كنا نقول للمسلمين دائما ان المشكلة ليست في المذهبية الفكرية، لأن من شأن هذه المذهبية أن تتحول إلى غنى إسلامي عام، ولكن المشكلة تكمن في المذهبية الطائفية العشائرية التي تجعل المسلم يتعصب لمذهبه بطريقة عمياء بعيدا عن الخطوط الإسلامية، في أن العدالة هي التي ينبغي أن تحكم حركة المسلمين حتى مع الذين يختلفون معهم لا العصبية، لأن "من مات وفي قلبه حبة خردل من عصبية بعثه الله مع أعراب الجاهلية". ولأن مسئولية المسلم تكمن في دفاعه عن الإسلام بكله وفي تحسسه لمشكلات المسلمين وهمومهم على مستوى العالم.
إن الأمة بحاجة وفي هذه الأيام بالذات إلى حركة فقهية وحدوية تنطلق من خلال علماء يملكون الأصالة العلمية والوعي السياسي، ليعملوا على تأصيل المفاهيم الإسلامية الوحدوية من جهة وعلى نبذ فقه الشقاق وعوائق وحواجز الخلافات، وليعاودوا السعي إلى توجيه المسار العام للأمة نحو الوحدة الحقيقية البعيدة عن كل أشكال التزييف أو عن المجاملات الكلامية التي تنطلق في المناسبات الرسمية في الوقت الذي تحترق ساحاتنا بنيران الحقد والكلام غير المسئول، أو بالممارسات والاعتداءات الكارثية التي تقوم بها جماعات تكفيرية لا هم لديها إلا تمزيق الجسم الإسلامي وتشتيته بما يسقط توازن الأمة ويعيد التوازن إلى الاحتلال، كما يجري في العراق هذه الأيام، وكما يجري في الباكستان وغيرها بين وقت وآخر. وكل ذلك يتم في الوقت الذي تواصل مراكز الدراسات الغربية والأميركية بالذات بث سمومها في كيفية تمكين الإدارة الأميركية من السيطرة على العالم الإسلامي والعربي ومصادرة ثرواته من خلال لعبة: "فرق تسد" أو على أساس إعادة إنتاج الخلافات العرقية والمذهبية التي من شأنها أن تخلق محيطا متفجرا يريح "إسرائيل" فتكون آمنة.
إن المشكلة تكمن في أننا نعيش في فوضى من الأولويات تجعلنا نهرول نحو أية دعوة غربية إلى الحوار من دون ضوابط وحسابات، بينما نحسب ألف حساب وحساب ونعمل لتسجيل النقاط بعضنا على بعض عندما تنطلق دعوات الخير إلى الحوار في ما بيننا، ولذلك رأينا الآخر الأوروبي والأميركي يحرص على إدارة الحوار معنا في بعض النماذج انطلاقا من قاعدتنا المذهبية، ليحاورنا كشيعة في جلسات خاصة، وكسنة في جلسات أخرى، ليعود إلى مراكز دراساته، فيبحث في الآلية التي من شأنها أن تراكم الخلافات داخل ساحتنا.
إننا نقرأ هذه الأيام تقارير لمسئولين أوروبيين تنسجم مع دعوات مشابهة انطلقت قبل ذلك من مسئولين أميركيين تدعو إلى إجراء حوار مع من يصفونهم بـ "الجماعات الإسلامية المعتدلة" على أساس أن ما يسمونه "التحول الديمقراطي في الشرق الأوسط" لا يمكن أن يتم إلا من خلال محاورة هؤلاء، ولكننا نعرف أن المسألة في عمقها لا تنطلق من احترام للإسلام وحتى للذين يتحركون في الساحة الإسلامية بطريقة حوارية منفتحة، بل من خلال سعي الآخرين لمد الجسور التي من شأنها أن تفضي إلى اختراق أوسع للساحة الإسلامية سياسيا واقتصاديا وأمنيا.
إن المسألة تكمن في أن الغرب في معظم دعواته للحوار مع العالم الإسلامي لم يكن صادقا، لإيجاد أرضية للتفاهم مع المسلمين لاحتواء المشكلة التي انطلقت على أساس سياسي ومن خلال عقلية الهيمنة والسيطرة والتبعية التي ظلت مراكز القوى الغربية تتحرك فيها في إطار علاقتها مع العرب والمسلمين، ولذلك فإن التصحيح لابد أن ينطلق من الأساس السياسي لا من خلال عقلية الخداع التي ترصد فيها الموازنات المالية لتخدير الساحة الإسلامية والعربية إعلاميا وسلب إرادتها السياسية وسعيها للتغيير الحقيقي، وعلينا في المقابل ومع عدم رفضنا للحوار الموضوعي ألا نقبل بأن يتم الحوار معنا كطوائف ومجموعات متناثرة بل من خلال الشخصية الإسلامية الجامعة التي ترفض كل وسائل الاحتيال.
فالغرب ينافق عندما يؤكد أنه يدعم أي عملية للتحول الديمقراطي في المنطقة، لأنه لا يريد تحولا يقود إلى التحرر. إنه يريد التحول الذي يقود إلى الاستلاب وإلى الأمركة. ولذلك، فعلى الأمة أن تكون واعية لأبعاد الهجمة التي لا يتورع أكثر من مسئول غربي في التعبير عنها بأنها دعوة للتصدي للإسلام، وعلى المسلمين أن يسعوا بكل طاقة لصوغ وحدتهم الداخلية لحماية مقوماتهم العقائدية والمادية قبل أن يسحب الغرب المستكبر البساط من تحتهم، فلا يبقى لهم حضور بين الأمم ولا هامش للحركة بين الشعوب
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 966 - الخميس 28 أبريل 2005م الموافق 19 ربيع الاول 1426هـ